|
رسم بالكلمات من أن رجلاً كان يجلس على جسر الرصافة في بغداد بينما كانت امرأة جميلة تقبل على الجسر من الرصافة، فابتدرها شاب بقوله: رحم الله علياً بن الجهم. فردّت عليه في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري. وتابع كل منهما طريقه دون توقف. فلحق بها الرجل وألحّ عليها بالسؤال عما أراد الشاب وعما أرادت. فقالت: أرادَ بالجهم قولَه: عيونُ المَها بينَ الرُصَافةِ والجِسرِ \ جلبنَ الهَوى مِنْ حيثُ أَدري وَلا أَدري/ وأردتُ بالمعري قولَه: فيا دارَهَا بالحَزْنِ إنَّ مزارَهَا \ قريبٌ ولكنْ دونَ ذلكَ أهْوالُ. أورد هذه الواقعة لملاحظة كيف أراد شاب مغازلة امرأة، وكيف ردّته، وكلاهما من العامة، وهي ملاحظة تقودنا إلى اعتماد دلالات تلك الوقائع لامتلاك المفهوم موضوعياً، بهدي من ظروف الظواهر وسياقاتها. إن مقولة الشعر ديوان العرب تتأسس معرفياً على واقع اجتماعي تاريخاني، يتجسد فيه تجذّر الشعر في وعي ولاوعي مجتمع في إطار بيئة محددة زمانياً – مكانياً، تقدّم فيها المتغيّر الزماني بضعة قرون تلزمنا لإعادة اختبار المقولة بقراءة الواقع الحاضر لا الماضي، استقراءً معرفياً لا تسليماً ثقافياً. يشير الواقع الحالي إلى غربة الشعر والشاعر، وانحسارهما ضمن دائرة أوسع، يتأطر فيها الأدب والفكر عموماً بأطر الكمالية والترف الزائد. إن الشاعر مهما كان حقيقياً وممتلكاً لناصية الأنساق المشتركة، بحسب عبارات أحدهم، بينه وبين متلقيه، فإنه يبقى محصوراً ضمن عشرات أو مئات من المتلقين الذي هم بدورهم أبناء الوسط الأدبي من أدباء ومتابعين. أما كلمة الناس التي تشير إلى الجماهير الغفيرة من العامة فتكاد لا تعرف حتى أسماء هؤلاء الحقيقيين، لولا استثناءات معدودة كنزار ودرويش.. وهي استثناءات تدفع إلى إعادة تعريف الشاعر والأديب بعامة بغير منظار إنتاجه. تشكل تلك الصورة المظهر لجوهر الحال التي انتهى إليها مجتمع، مازال يتمسك بأدواته الثقافية وممارساته وأعرافه، بل حتى بأولياته وأصوله المعرفية نفسها منذ قرون غابرة. في الجدل الشهير الذي نشب بين نزار قباني ونجيب محفوظ، على خلفية السجال السياسي بشأن الكفاح والسلام زمن السادات، نقطة للتأمل. فبعدما أخذ محفوظ على الشعراء الغلو في الثورة، ردّ نزار بأنّ الرواية هي ورشة عمل تفتح وتغلق في مواعيد منتظمة، أما الشعر فهو مشروع وجداني، هو ببساطة استشهاد على الورق!. نعم! وهذه ميزة الشعر ومأساته في آن، ميزته باعتبار طبيعته المفارقة والمتجاوزة التي تجعل منه النسق الأكثر جنوحاً نحو الأمام في مجتمعه، ومأساته من حيث تقدمه واستشرافه للمستقبل غير العابئ حتى بجمود مجتمعه الذي مازال يراوح في أعماق الماضي، كما هي الحالة العربية. لقد أطلت الحداثة من الخارج حين أخذت مدافع نابليون تدكّ المجتمع الغافي باطمئنان على سرير العصور الوسطى. لم تكن أبداً كالحداثة الغربية التي بدأت من الداخل، مع طعنات فرنسيس بيكون ( 1561- 1626) للمنطق الأرسطي، بتحطيم الأصنام التقليدية للقرون الوسيطة، ونبش الأقبية الهيلينية، في ظروف من ثورة شاملة أوقدتها الكشوف الجغرافية، وما كرسته من انقلاب عنيف مديد في النظم المعرفية السائدة، وتدفق الثروة من المستعمرات في العالم الجديد مع بدايات التأسيس لأنطولوجيا مختلفة، وهو ما نجم عنه تنصيباً للعقل بدلاً من النقل، وللتجريب محل الاستنتاج الصوري. ذلك ما كان يشكل الظروف الموضوعية، والسياق التاريخي للحداثة الغربية التي حمل لواءها الطبقةُ البرجوازية الوليدة. وما أن انتصف القرن التاسع عشر، وظهرت الآثار الرهيبة للثورة الصناعية التي نقلت المجتمع الغربي إلى الطور الامبريالي الكولونيالي، حتى زاحمت لاعقلانيةُ شوبنهاور (1788-1860) عقلانيةَ ديكارت (1596-1650)، وحُوصرت المثالية الموضوعية لأمانويل كانت (1724-1804) بذاتية نيتشه (1844-1900) ووضعية أوغست كونت (1798-1857)، وقلب ماركسُ (1813-1883) ديالكتيكَ هيغل (1770-1831) رأساً على عقب... كانت تلك التغيّرات التي جرت ما بين القرنين 16 و 19 شاملة عميقة تجاوزت كل الأصول والثوابت المزعومة، يزيد من أوارها أزمة الضمير الأوربي المثقل بالحروب والويلات، ومشاعر الإحباط من مشروع الحداثة الذي أنجز برغم ذلك مآثر خالدة من قبيل تحقيق الدولة الوطنية الحديثة، الانتقال التام من الرعوية إلى المواطنة، التنمية... وللباحث بالتالي أن يجد بيسر السياقات التاريخية الموضوعية لكل الإبداعات الجديدة، شكلاً أو مضموناً، التي أنتجتها المخيلة الأدبية والثقافية الأوربية من مدارس فنية وتيارات فلسفية إلى ثمار أدبية كقصيدة النثر, ونقدية كالبنيوية والتفكيكية... فأين هذا من الحداثة العربية التي تمخضت عنها نهضتان انتهت كل منهما إلى مهادنة قدسية الموروث، وانتهت مخاضات ولادة الطبقة الوسطى كحامل اجتماعي ضروري إلى الإجهاض، بينما ضاعت كل الأحلام في بناء المجتمع والدولة الحداثيين، وانكشف خواء المشاريع والايديولوجيات؟!. فماذا بقي من الشعر ديوان العرب؟!. القليل! القليل جداً! ومن المضحك المبكي أن يتحدث بعضهم بسذاجة عن الشاعر الحقيقي الذي يستطيع كتابة الديوان، وكأن هذا الحقيقي سوبرمان قاهر فوق الواقع القاسي وضراوة ضروراته، ومنهم من يسوق تلك المقولة بخبث سلفي يهدف إلى مزيد من الترويج لمقولة الفحل الشعري. وربما كان الأكثر إيلاماً أن يدفع التجريد الأجوف والخواء المعرفي بآخرين إلى مقارنة الشعر بالمسرح أو بالرواية، وهو ما يدلّ على ضعف منهجي يتجلى في العجز عن الفصل المنطقي بين العام – العالمي, والخاص – المحلي، فيحللون واقع الشعر العربي بآليات نقد ذي مرجعية مختلفة، والنتيجة توصيفات سطحية تنطبق على الشعر الفرنسي أكثر مما يحتملها الشعر العربي سواء القديم منه أو الحديث. ومما يزيد الطين بلة توظيف مفاهيم مجردة لا مكافآت موضوعية لها في المجتمع العربي كالطبقة الوسطى التي لو تحققت عربياً لكان للحداثة في مسارها ومآلها شأن مختلف تماماً. إنه سوء فهم الحداثة، والخلط بينها وبين التجديد. أزمة الشعر العربي اليوم شائكة متفردة، تبدأ موضوعياً من إشكالية العلاقة الريبية التاريخية بين الثقافة والسلطة العربيتين، افتقار المجتمعات العربية إلى بنى حقيقية قابلة لأن تكون حواملَ اجتماعية، وهن المؤسسات وعجزها... إلى شخصية الشاعر والأديب عموماً ومدى قدرتها على التواصل مع مجتمعه... هل الشعر مازال بخير؟! وماذا تبقى من ديوان العرب؟!.. أسئلة شديدة الإلحاح بقدر عظمة الشعر توأم النبوة الوحيد، تحتاج منا إلى أقلام جادة تنحت في عمق الواقع واستقراء الحاضنين الموضوعي والذاتي، بعيداً عن الخواطر المجرّدة، واللهو الذهني الذي هاجمه فرنسيس بيكون في فجر الحضارة الغربية الحديثة، وهي مهمة عسيرة يستحق منا الشعر النبيل خوض غمارها. |
|