تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الرصيف الآخــر

رسم بالكلمات
الأثنين 19-1-2009م
باسم سليمان

القصبة منحنية, كألف كتبها طفل بقلم يهرب من يديه, في حين الفلينة تتأرجح مع الموج الذي له حركة سرير النوم . أنْ تجلس بهدوء؛ يعني ترك ظلك يرسم حركة الشمس التي بدأت تتسلق درج السماء,

وهذا يفضي إلى معرفة, كم من الوقت يجب أن تقضيه, ولا بد أنه طويل أكثر من سلك خيط صنارتك. الضوء والظلال كانا شهيين؛ لأكون رساما, فألتقط سمك اللون في لوحة, هذا ما قلته لصديقي الذي يهوى الرسم الانطباعي ولا يبارح مرسمه واستتبعت كلامي له عن أي انطباعية تتكلم أظنها تذكارية؟!.محظوظ ,فقد وجد مكانا لكرسيه والحظ أصابني أيضا, فعلى الجانب الأيسر منه, استوت صخرة, أظنها مناسبة ؛لأبدأ يوم الصيد الأول لي .‏

ألقيت التحية ,وجلست, لم يبادرني بشيء, بل كانت عيناه معلقة بالفلينة التي غاصت لتوها في الماء وبحركة ارتدادية كالأفعال الانعكاسية استقامت القصبة وبدأت التأرجح يمنة ويسرة وفرخ السمك يرقص في هواء الموت إلى أن استقر في كفن من قصب.‏

حضّرتُ عجينة الخبز وثبّتها وأرسلت قصبتي في الهواء ,سقطت الفلينة على وجه الماء‏

وبدأ الانتظار, ومراقبة الوقت يجري في ساعة اليد, ربع ساعة مرت ,فلينتي لا تحركها أنغام العمق , الخدر تسلل إلى ساعدي ,حركتهما قليلا, قصبتي كعداد السرعة تهتز, شكلتُ القصبة بين قدمي, مسنداً إياها لفراغ بين صخرتين, متابعا الصيادين من حولي كلما انتشل أحدهم سمكة ,أراقبه ليس حسدا, لربما من أجل تغير مكاني ,فالسمك لا يهدأ في مائه وهذا المكان قد أنهاه هذا الصياد الصامت . تغطس فلينتي, تجذب معها يدي الممسكة بالقصبة برخاوة , أضغط قبضتي بشدة وأرفعها عاليا لأجد الشصّ عاريا إلاّ من حرابه الصغيرة, لقد خدعني السمك , ألصق العجينة من جديد ,أقذف بالصنارة إلى الماء , أصبحت سلته كأنها مقبرة جماعية , يمضي الوقت, الساعة العاشرة, منهك ,عطش والعرق جعلني أكثر ضجرا , لم أصطد ولا سمكة , أنا من ذهب إلى البحر ورجع عطشانا! , ألملم عدتي ,أهم بالذهاب , صوت يناديني : هه أنت , خذ , ألتفتُ للصياد الصامت وبيده السلة , أمسح العرق عن وجهي وأقول : أنا, فيجيب :نعم أنت.‏

  ‏

في اليوم التالي استعجلت القدوم, وجدته في مكانه , صبّحت عليه ,شكرته على سلة السمك , رد بابتسامة مقتضبة وتابع هدوءه .‏

متأملا اليوم أن أصيد ولو سمكة, تابعت رمي صنارتي ,لأخرجها بعد هنيهة وسخرية السمك الذي أكل الطعم وهرب, كان صيدي.‏

مد يده, ناولته القصبة بصمت ,وضع العجينة في مكان أعلى بقليل مما كنت أفعل ثم رماها بخفة لتسقط الفلينة بعيدا في الماء وأعادها لي وهمس: القصبة يدك الثالثة فتعلم استخدامها كما يديك الأصليتين, أرخِ عضلات ساعديك وانسى تماما وجودها, استشعر كل اهتزازة غريبة وماكرة فالموج له اهتزازات متواترة تتسلل إلى أعصابك دون الإحساس بها لكن ضمنا هناك هزة نشاز على أذن يدك أن تلتقطها في تلك اللحظة اجذب بسرعة للأعلى! في غمرة إنصاتي له, بحركة فجائية, كما يطبق الشرك على الفريسة ,انتصبتْ قصبته كراية مزينة بفرخ سمك يخفق في الريح.‏

انطلق نفير الحرب ,ارتفعت رايات صيادين آخرين ولم ألحظ أن دوري قد حان حتى صرخ بوجهي : الآن.‏

كجندي نسي وضع حربته بينما أبواق الحرب تنفخ, شهرت قصبتي, كان الفرخ هناك قاب حلم وهروب, خفق قليلا مع رايتي ثم قفز إلى الماء, فرأيت محكمة الميدان أمام عيني وحكماً كاد يصدر عن الصيادين لكن أحدا لم يبالِ. نظرتُ إليه لم يعرني انتباها, سحبت الخيط, وضعت الطعم حيث وضعه ثم قذفت الصنارة إلى الماء.‏

إنها الهزة النشاز التي سوف تطربك في المرة القادمة , لا تنظر إلى سلتك الفارغة, بل انظر كم هو البحر كبير وصنارتك صغيرة , هكذا اتساع ,احتمالاته قليلة, لكن الانتظار يخفف من عدد الاحتمالات بل يجعلها على عدد أصابعك , النوتة جاهزة ما عليك إلا أن تنقر بإحساس مرهف وستسمع فقط اللحن النشاز وقتها سوف يصبح اللحن الذي تحب وتعتاده لدرجة تصبح حركة الموج هي النشاز فتبحث عنه بكل حب وستجده كلما كنت قادرا على الصمت .‏

صمت الصياد وأنا كذلك. مر الوقت, ساعة يدي اختفت, بدأت أسمع حركة عقرب الثواني من زعانف السمك الذي يقترب ويبتعد من عقرب الدقائق إلى أن دقت تمام ساعة الشص, فتحت السمكة فاها وانطلق عصفور الساعة يعلن تمام انتصاب القصبة. كانت هناك كقلعة رفعت الراية البيضاء, سحبتها بهدوء, قبضت عليها بأصابعي الخمسة تحسست الأوتار رفعت النوتة عن الشص , شممتها كانت كزند صديقتي لكن رائحتها أحلى , ستجن إن قلت لها: إن رائحة السمكة دوختني أكثر من رائحة عطرها , لأول مرة سلتي حامل بسمكة.‏

سمكتان حصيلة صيدي اليوم! ودّعت الصياد الصامت مع أننا تبادلنا معرفة الأسماء !‏

أصبح الأمر تحديا, بكّرت أكثر, فسلتي يجب أن تمتلأ بالسمك , ومازلت في موقعي ذاته, فالصياد الصامت لو كان يجد في ذلك جدوى لنقل مكانه وهو أكثر الصيادين حظا - فسلته دوما عامرة - وخبرة بالضرورة.‏

كادت الشمس تنهي سلم الصعود , خمس محاولات فاشلة أرى فيها السمكة تقول: ابتسم , سألتقط لك صورة أريها لسكان عالم الماء , وتختفي في الأزرق , تمنيت لو أن السمك يملك علامات فارقة, ليكون لطريدتي هوية أعرفها بها عندما تقبض عليها أصابعي , فأهمس بأذنها: ابتسمي سألتقط لك صورة أريها لسكان عالم البر.‏

ثلاث سمكات صغيرات! أي صيد هذا ؟ ما زلت قادرا على الصمود بعد , لن أعود! بدأ الصيادون ينسحبون عندما تربعت الشمس في كبد السماء, الصياد الصامت مازال هنا رغم أن سلته لم تكن عامرة هذه المرة ولكن بالنسبة لي أعتبره صيدا وفيرا , بدأ يطوي عدته. عندما انتهى, أشار إلى هناك وقال: غدا.. أتذهب إليه, قلت له: أين؟ قال: الرصيف الأخر.. يبدو أن السمك هنا قد أخذ حذره كثيرا.. السمك يتعلم! فكل سمكة قبل أن تخرج من الماء تترك وصية تحذيرية لغيرها : ليس من الجيد الوصول لكل طعام في متناول اليد! الطعام الآمن هو ما تبذل الجهد للحصول عليه! لحظتها طربت أصابعي للحن المحبب وإذ بسمكتي الرابعة, قلت له أنها سمكة لم تسمع بعد بالوصية, فأجاب بل إن الوصية لك الآن, غدا أراك..‏

وأنا في حيرة من رده, اقترب منه رجلان, انتشلاه كما تنتشل سمكة كبيرة بالشبكة وأخذاه إلى سيارة قريبة , لقد كان مشلولا!‏

واقفا كصنارتي أراقبه , رفع يده من نافذة السيارة : غدا ألقاك هناك .‏

السيارة تبتعد,.قصبتي تهتز كإبرة مسح الزلازل, تتوقف, بطرف عيني أرى السمكة ترسم خطا منحنيا في الهواء وتغوص في الأزرق, بعيدا إلى الرصيف الآخر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية