|
دين ودنيا لطالما حاولت أن أكون واقعياً أثناء كتابتي ولكنها كانت دائماً تشدني إليها لأكتب عنها ولأدخل في تفاصيل حياتها وهي تشدني بقوة إلى المكان الذي أصبحت فيه الأم نوعاً آخر من العمالقة التي عرفها التاريخ ونوعاً مختلفاً عما ألفه الناس إنها ( الخنساء: تماضر بنت عمرو )... الخنساء هذه فيها سائر ما في النساء من الوهن والضعف والغيرة وغير ذلك وكانت شاعرة مجيدة لا يعرف لها مثيل في الشعر وكان الرسول ] يدعوها إلى مسجده الشريف ويقول لها: ( هيه يا خناس أسمعينا ). كانت في الجاهلية تعيش مع أخ لها يقال له صخر وكان صخر هذا فارساً من فرسان العرب وحين كان في بعض غزواته أصابه سهم فمرض منه مرضاً شديداً ثم مات فلما رحل ملأت الدنيا عليه نوحاً و نحيباً وكتبت فيه من القصائد ما خلد أسمه إلى زماننا. وإن صخرا ً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار حمال ألوية طلاع أودية كأنه علم في رأٍسه نار وكان تبكيه بأحر المدامع: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس ولولا كثرت الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولكن هذه المرأة الرقيقة الحالمة تحولت بالإسلام إلى نوع آخر من النساء, وحين سعدت بأربعة من أبنائها الذكور أكرمها الله تعالى بهم, فنشأتهم وأدبتهم بأدب الإسلام ودفعت بهم إلى مواطن العزة و الكرامة, ثم خرجت بهم تنفر معهم يوم الجهاد, ذهبت معهم إلى ثغر لا تدري أتعود وإياهم أو لا يعودون, وهناك حين وقفوا قبيل احتدام القتال في معركة القادسية وقفت الخنساء ونادت أولادها الأربعة وأجتمع من ورائهم خلق غفير كلهم يريد أن يسمع الخنساء, وما عسى تقول أم تودع أولادها إلى الصفوف الأولى... كيف يمكنك أن تسمع صوتها من دون أن يختلط بحشرجة الدموع والنواح. الإسلام جعل منها شيئاً آخر حين وقفت قبيل اندلاع الحرب ومن حولها أبنائها الأربعة الذين لم يروي لنا أحد منهم خبراً, لأنهم استشهدوا جميعاً... وقفت تقول لهم : يا بني إنكم أسلمتم مختارين, وهاجرتم طائعين, والذي نفسي بيده إنكم لبنو رجل واحد وأم واحدة. ما خنت أباكم, ولا فضحت خالكم, ولا هجنت نسبكم, ولا غيرت حسبكم, يا بني... إنكم تعلمون ما أعد الله للمؤمنين من الثواب الجزيل واعلموا يا بني أن الدار الباقية خير من الدار الفانية. يا بني اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.... فإذا أصبحتم غداً سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعداءه مستنصرين وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وأضرمت لظى على سياقها وحلت ناراً على أوراقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها.... إنها أم من الأمهات اللاتي رباهن الإسلام, أليس من الواجب أن نقف بخشوع أمام هكذا أمهات?! ودارت رحا الحرب وكان الأبناء قد أبصروا مقاعدهم عند مليكهم قبل أن تدور المعركة, وأقبلوا يقتحمون الموت ويتسابقون إلى لقاء الله فما انقضى النهار حتى حمل أولادها جميعهم إلى قدميها وقد كفنوا بثوب الكرامة وقد انتقلوا إلى دار العزة والمقامة.... أما تلك الأم العظيمة فقامت عند جدث أبنائها الأربع وقالت كلمة حفظها التاريخ لها: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم.. وأسأل الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.. إنها ذات الأم التي كانت تقول في الجاهلية يذكرني طلوع الشمس صخراًً وأبكيه لكل غروب شمس هي ذاتها المرأة التي تقول الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم وأسأل الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته أنني لا أحب يوماً أن آسف على غياب الأم الحقيقية وأنني أتطلع لأمهات كالخنساء يحيون مجدها في تربية أبنائها وشدة إيمانها لأن الدنيا لم تقف عندها ورسالة الأمهات باقية تتجدد كلما تقلبت صفحة من صفحات الأيام. جاء رجل إلى النبي ] فقال: يا رسول الله.. من أحق الناس بحسن صحابتي? قال أمك, قال ثم من? قال أمك, قال ثم من? قال أمك, قال ثم من? قال: أبوك. |
|