|
دين ودنيا ومن قلب بعلبك ولد الأوزاعي .. ثم ربي يتيماً فقيراً في حجر أمه الحنون التي كانت ترعاه وتحنو عليه حتى عندما كبر والتي تنقلت به من قرية إلى أخرى حتى استقرت في بيروت. إنه عبد الرحمن بن عمرو بن يحمر الأوزاعي ولقب (الأوزاعي ) لأنه منسوب إلى الأوزاع التي هي بطن من ذي الكلاع الحميري من قحطان من اليمن... وتعددت الآراء حول نسبه. وفي بداية شبابه المميز لقي الأوزاعي كبار الأئمة في الشام وكان لهم تأثير عليه, ومنهم مكحول الدمشقي تلميذ مالك بن أنس. أكثر الأوزاعي من الرواية في أمور القتال وكان بذلك يعكس حاجة عصره حين كانت الأمة الإسلامية تطلق حضارتها في الأرض, وحين القتال جهاداً مشروعاً في السلوك الإنساني, وهكذا فقد كان واحداً من أبرز المرابطين في سبيل الله. ومن طرائف التقدير أن روايات الأوزاعي في أحاديث الرحمة كثرت أيضاً, وهكذا اشتهرت عنه رواياته في الجهاد والرحمة. وفي الشام التقى بمكحول الشامي, والقاسم بن غيمرة, وأبو إسحاق الفزاري, وفي العراق والجزيرة التقى بالحكم بن عتيبة الكوفي, وميمون بن مهران, كما أخذ عن أئمة أهل البيت ومنهم الإمام محمد بن علي زين العابدين الهاشمي الملقب بالباقر الذي أخذ عنه خفي العلم ومشكله... وتأثر بمالك بن أنس وفقهه. وهكذا أخذ الأوزاعي من الأعلام والفقهاء وممن ذكرنا ومن غيرهم الكثير, فلما اجتمع له كل ذلك وأكثر صدر بالأقوال والفتوى وتبعه الناس على مذهبه في الشام كلها ثم سار المذهب إلى المغرب والأندلس فانتشر هناك وبقي عهداً طويلاً... وعلى عظيم ورعه وتقواه, فإنه كان بصيراً بمقاصد الشريعة وقد كان موقناً أن الشريعة جاءت لسعادة الإنسان, ومن أبرز مواقفه في ذلك فتياه في شأن سفر المرأة بلا محرم فقد أدرك أن هذه المسألة محكومة بمقاصد الشريعة, واشتهرت عنه فتياه: ( إن ذلك في سفرها منفردة وفي قافلة صغيرة ولكن القوافل الكبيرة وغلبة الأمن تقوم مقام المحرم, وبذلك دفع حرجاً كبيراً عن الأمة ). ومن أدبه الرفيع أدب الرسائل وكانت صنعته الكتابة والترسل .. ومما كتب إلى أمير المؤمنين الخليفة المنصور: (أما بعد فعليك يا أمير المؤمنين بتقوى الله عز وجل, وتواضع يرفعك الله تعالى يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق, وأعلم أن قرابتك من رسول الله ( لن تزيد حق الله إلا وجوباً ). وكان الأوزاعي أيضاً خطيباً يهز الأفئدة والقلوب.. لقد جمع بين الفقه والزهد... أو الظاهر والباطن ... أو الشريعة والحقيقة فكانت طريقته مذهباً وكانت أقواله تؤيد طريقته. ولقد ساد مذهب الأوزاعي زمناً طويلاً, ثم حل محله مذهب الشافعي في الشام, ومالك في الأندلس, لكن هذا لم يمنعه من ظهور تلامذة له أخذوا عنه ورووا عنه الكثير .. ومع ذلك... وعلى الرغم من نشاطه وزهده وعلمه وفقهه وإفراطه في العبادة ورغم كثرة اهتماماته فإنه ظل حاضراً في الحياة العامة, يلتقي سائر الناس يبذل لهم نصحه ويلتقي الأمراء والولاة ناصحاً ومرشداً ومنتصراً للمظلومين. وكانت سياسته الرفق ووجوب امتداده إلى الناس جميعاً حتى ولو كان بالقاتل الكافر إذا استجارك. وهكذا كان الأوزاعي إماماً عالماً وفقيهاً وأديباً وخطيباً ومحارباً وزاهداً ورعاً قهر نفسه وأدبها, وكان الزهد طريقه والتقوى زاده. وكان أيضاً متواضعاً لطيف المعشر لا يرد أحداً عن صحبته ولو كان من أهل الذمة حتى كثر أصحابه منهم وكان وفياً مخلصاً للجميع... ولم يكن ذا منصب ولا جاه في الحكم وكان أكثر ما يكره ويرتاب من الهدايا وكان يقول: ( لو قبلنا من الناس كل ما يفرضون علينا لهنا عليهم ). وهكذا كان إمامنا شجرة وارفة الظلال ناضجة الثمار تنحني لربها دائماً في خشوع وانكسار... حتى وافاه الأجل في سنة سبع وخمسين ومائة من الهجرة المقابلة لسنة أربع وسبعين وسبعمائة من الميلاد... وقد وجد في الحمام متوسداً ذراعيه إلى القبلة مسلماً روحه إلى البارئ.. منجزاً رسالته الكبرى التي عاش لأجلها في الأرض. ثمة علم كثير للإمام الأوزاعي ينبغي أن تتعلمه الأجيال, وقد قال عارفوه: لو تيسر لعلم الأوزاعي من يخدمه لكان خامس الفقهاء الأربعة الكبار. لا يزال علم الأوزاعي في بطون كتب التراث, جزءاً من حلقة مفقودة ينبغي أن تنصرف إليها جهود الباحثين, إنه فقه ما قبل المذاهب, قريب من الكتاب, قريب من السنة, قريب من عصور الخير, ولكنه غائب في ثقافة الأمة اليوم. متى يتيسر من يبعث فقه الأوزاعي إماماً معلماً رشيداً?!.... |
|