تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إلى من يهمه الأمر..سفر.. ومطر!

ثقافة
الجمعة 23/3/2007
يوسف المحمود

يوم سفر, لم نستطلع له الأرصاد الجوية, ولا أنا ترصدت به مثل الآباء والأمهات: إذا ضبضبت عشية, اقشع لك قرنه دافيه. واذا ضبضبت باكر, احمل عصاك وسافر.

يوم سفر منوي, يوم الخميس منتصف آذار. مشاهدة الضيعة لا تفوت. والطريق أشكال وألوان. بإزاء مساكن العائدين. سيارة أمامك كمح البيضة بزلالها, يمشي سائلا, أخاديد المحافر إلى شمالك, كالضباب يريد أن يسترها, ولكنه لا يرف أو يهف. مساحات الزجاج, تبادر ثلجا قبل أن يعلق, ومطرا قبل أن يسيل: (الله يبعت الخير) لا تستعجبوا الثلج بآذار. فياما نفضناه عن الغمار!.‏

طلوع التنايا. القطيفة, مفرق معلولا. الى القسطل: نسفات الثلج, بين الجنوب والشرق, كحلاوة شوشية تلطخ الواجهة. المساحات تخف الى جمعها, كأن بين زاويتي شفتين وحنكين. ومرة, شلحة الثلج على الواجهة, كرجل الشوحة تحط على حافة عشها. الشجيرات الناشئة, حائدة عن جانبي الطريق. مرة تلتم في بعضها بعض, كصبي ينصر في نفسه, كأنها تقول: (أححح, يا بردي!) ثم تنفرج واقفة على هيئتها, كأنها تقول للعصفة: (روحي! ما عملت معي شيئا) عال العال! الثلج والمطر معا, على الهواء الشرقي. البادية إذن عائمة!.‏

السماء, بعد القسطل بقليل, ارتفعت صار لها سوالف, الى الكتفين. غيوم مبعزقة. تتقاطع, أو تتواصل, كصبي يلعب بمنديل أمه على رأسها. يغطي, مرة هذه الجهة, ومرة تلك. ومرة يكشفه كأن لم يره قبل. ومرة يعقد طرفيه تحت الدقن. يضحك الصبي. رأس الأم: ملفوفة غير مكشوفة. الصبي يضحك أكثر. أمه تحرك رأسها كما رأس الغنمة مطرمشةَ!.‏

السماء فوق النبك, ليست أعلى. ولكنها أوسع. الغيم الأبيض, قطع جبن معصورة بين الكفين, لا ينفث, ولا هواء ينفخ. سيارات تتراكم إلى جوانب محلات هريسة النبك. بنيات كأصابع طباشير, يتهافتن بين السيارات كفراشات. ربما يأخذن للآنسة, تقدمة يوم عيدها!.‏

أرض النبك, كقزع غيمها العالي, هذا اليوم. أرضها بيضاء. موعدها بالنبت من أيار وطالع! ولكن عليك أن تبتسم (أنت في دير عطية) أرضها أيضا, لم تنبت بعد, ولكن الطريق, تلاقيك بالشجر. بشقف زريعة. سقوف بالقرميد الأحمر. بدروب جامعة القلمون. تدرس فيها على حسابك, كل ما لا يصح لك في جامعات الدولة. وإذا لم يكن لك الابتسام ارتياحاً, فالابتسام إعجاباً ضروري.‏

وإلى القرنة, غربية- شمالية, بينها وبين حسيا. قرنة, بالعادة, نسف الثلج شرقاً. وحتى تحويلة حمص, ومصفاية حمص. الأفق مفتوح إلى مصياف شمالاً, بالغيم الناشف العالي المبعزق الرصاصي, كريش بطن النسر, وخوافي الجناحين. أما القوادم فكأنها محورقة, فقط, فوق لهبة المصفاية!.‏

فرقت الطريق إلى طرطوس. كل شيء فرق. الغيم ينفث رذاذاً. خنادق وبرك مياه صافية, كأنها الساعة فاضت. أعشاب الرعي, بزهرها الأصفر. تحسبها, عن جانبي الطريق, تريد أن تدخل السيارة عليك. نزلة تلكلخ, المطر كبس. البقيعة عن يمينك تحسبها ميناء واسعاً. ولكنه مملوء بالخضرة. أحواض سمك, على حافته معرض فخاريات محلية. تفرق شمالاً إلى صافيتي البرج. الجعيفرية على يسارك, كأنك لا تزال تسمع فيها: (قالوا ذراة البقيعة كتيرة. قالوا طاحون تل حني وراها!).‏

عن يمينك, مائلا جهة صافيتا, وطا حبرون. رغم البستنة. سهل أخضر يموج بالزرع, لا يزال مسكوناً بأغنية: بفي الزنزرخته, بفي الزنزرخته /ان قي, وانعشت بحضي وبختي. ان كنك نعسانه اطلعي لتختي/ بيجيب الهوا من وطا حبرونا!.‏

الطريق كمصارين السخلة, تلتوي كثيرا وتستقيم قليلا, بين الزيتون من جانب, وبساتين الحمضيات من جانب, حتى تقف على تنور سد الباسل على جسر الأبرش. وهج التنور بحطب الزيتون يكاد يقب السقف, ورائحة الخبز تفتح الراس من فوق. فطائر محمره. فطاير بجبنة خضرة. بشنكليش. خذ بيدك. وقف على حافة السد. تحس الأكل راح بالسد, لا في البطن.‏

وبطريق مصارين السخلة, تدخل وتخرج مدينة صافيتا, بمثل السجق, لتصل بمصارين السخلة الى الدريكيش. تخرج بمثل المعي الغليظ, وتستلمك مصارين السخلة, إلى أن تنتقك, بالحمد الله على السلامة, خلف البيت. كأنك مثل الشجر المخضر بالمطر النازل, من نزلة تلكلخ, إلى الضيعة!.‏

وآه يا ضيعة! الوادي من تحتك. الغيم الممطر من فوقك. والسنديان الدائم الخضرة شجرك. والقرميد الأحمر سقوف بعض بيوتك! الهشير إلى الركبة. والعشب الى الكرسوح. والزرع الذي يغطي جمشه بآذار, قبيل. وإن قبلت وراها آذار. أو لا سمح الله أمحلت, كذلك وراها آذار.‏

(وسبعتعش بآدار, طالع طرشك إلى الدار) وذلك الطرش الضروري لبيت الضيعة, على ما أدركنا في عشرينات القرن الماضي, رعيناه في ثلاثينياته. وعايشناه إلى منتصف خمسينياته: بقرة إلى, أربع خمس بقرات. أربع خمس غنمات. تسع عشر عنزات. رؤوس خمس ستة أولاد البيت, إلى البقرة مربوطة على جرفة بطول مترين. من بعدها صيرة الغنمات والعنزات محصولة بكرع البلوط والسنديان. بعدها قرنة التبن للبقرة. دجاجات البيت إلى حد العشر, على مرفة القصب فوق الجرفة. العجلة تربط بساموك, إلى جنب الصيرة.‏

قعدة أهل البيت, ومن يلم بهم, عن يمين الموقدة بمفرش حصر. وعن شمالها بمفرش حصير حمصي. تخت الوالدين. بين نهاية الحصير, إلى جانب تابوت البرغل وتابوت مؤنة الطحن الشعير والذرا البيضاء. خلف التابوتين, خابية الزيت, وسدون الكشك, وحبة العدس!.‏

وبآذار الهدار. الطرش بيجي قطار قطار. والراعي محمل عالحمار. والكلب ما بيعرف وين باب الدار!.‏

و(ست البيت), تكنس صيرة العنزات. كل صباح. تقيم من تحت البقرة بالرفش, وتلقف بالسقروق. ويا ربي دخيلك, ما بقا يعرف يجي سبعتعش بآذار تنطالع الطرش إلى الدار, ونرتاح من كنس البعر والشطاط.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية