تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأم المتوحشة

معاً على الطريق
الجمعة 23/3/2007
قمر كيلاني

جاء عيد الأم هذا العام في عواصف من العنف والقسوة والقتل في بقاع كثيرة من العالم... واحتفل الأبناء بالأمهات.. وأمهات الأمهات.. وكل من هي كالأم ولو بغير النسب أو الدم.

وبينما كنا نتجاوز الأم كعاطفة وانتماء وولاء, وعرفنا الأرض الأم اتصالاً بالأم, وكتبنا عنها معاً, وقدمنا القلوب والهدايا والزهور, نجد أنفسنا اليوم أمام الأم المتوحشة التي تدعى (العولمة) وهي تخضع البشر كلهم أمهات وآباء, صغاراً وكباراً, لكي يكونوا أبناءها.‏

ومع هذا فهي تسلب الكثيرين منهم طعامهم, وشرابهم, وثرواتهم, وتفرض عليهم أنماطاً من العيش, وأنظمة من السياسة والاقتصاد والاجتماع باسم الحرية والديمقراطية تارة, وبأن الكون كله أصبح قريتها الصغيرة تارة أخرى.‏

وكما في الأسطورة القديمة جداً فإن المرأة الأم في القبائل البدائية كانت تقتل أبناءها, وتأخذ دماءهم لتمسح بها نبات الأرض وعروق الأشجار وسطوح التربة حتى يعم الخصب, فترضى الآلهة الغامضة.. آلهة التوحش.‏

إلا أن الأرض الآن تئن من أنهار الدماء.. والطبيعة ذاتها تشكو من اجتراح حقوقها أولاً, وحقوق الإنسان فيها ثانياً رغم التقدم الذي تدعيه الحضارة.. ورغم ما لا يقاس من التفوق التكنولوجي وآلة الحرب والدمار في غياب ضمير الإنسان وقدرته على التعاون والإعمار..‏

التعاون بين أبناء الأمة الواحدة أو الشعب الواحد ومن ثم تعاون كل هؤلاء في سبيل حياة للبشر يختارونها بين قوانين الأرض وشرائع السماء.‏

الأم المتوحشة هذه تتسلط بقوة على الجميع.. وتخص المرأة أكثر من الجميع... فتتعالى الأصوات في سوقها طوعاً أو كرهاً إلى العمل.. والعمل الشاق أحياناً دون حساب لدورها الطبيعي كأم أو الطليعي في رعاية الأسرة وتربية الأولاد ونهضة البلاد.‏

صحيح أن الحركات النسائية في العالم كله تطالب بحقوق المرأة, ومساواتها مع الرجل لكن هذا لا يعني امتهان كرامتها ودفعها إلى ميادين لن تعود عليها إلا بالخسارة... هذا لا يعني إطلاقاً أن تظل الأمور بأيدي المجتمعات الذكورية التي لا تزال هكذا في استغلال المرأة بتسخيرها وترصد حاجتها حتى في لقمة العيش, خاصة أثناء الحروب التي يقررها الرجال وتدفع أثمانها النساء, وربما تكون المرأة بطريقة أو بأخرى جارية من جواري القرن الحادي والعشرين رغم أن كل امرأة هي أم أيضاً بطريقة أخرى.‏

ويبدو أن هذه الأم المتوحشة التي هي (العولمة) تفترس أكثر ما تفترس بنات المناطق المتأخرة والفقيرة في العالم... وتسوقها بسياط هي شواظ من نار لتدفعها لا إلى الاختراق بل إلى الاحتراق.. اختراق طبيعتها كأنثى وما فطرت عليه أو درجت على منواله.. أما الاحتراق فهو في صياغتها بنيران جديدة من القيم والمفاهيم وربما المصطلحات الغريبة عنها والتي لا تناسبها لأنها من فضاءات وعوالم لا تنتمي إليها.‏

إن أي مقارنة بين شروط الحياة إن لم نقل رفاهيتها وبين ما هو الحال في مناطق تلحق بالعولمة أو تتعلق بأذيالها.. أقول إن أي مقارنة تدل على أن العولمة ليست لحساب الضعفاء ولا الفقراء بل لحساب المستغلين والطامعين والأغنياء, بحيث ينقسم العالم إلى سادة وأجراء.. إلى أرباب أعمال وأرقاء... ومن يدري ربما يعود قانون الأقنان فتباع الشركات كما الأراضي زمن الإقطاع مع مستخدميها وموظفيها وجميع الحسابات فيها... وإذ تنتقل من يد إلى يد فهي تتجاوز كل حد في التحكم بمصائر البشر لا على المستوى الفردي بل الجماعي.‏

الأم المتوحشة... وهي العولمة لا تفزعنا بمقدار ما تؤرقنا وتنبهنا وخاصة نحن الأمهات في أي جولة قادمة من تلك الجولات.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية