|
شؤون ثقا فية حين وصلنا إليها قادمين من (دلمان) حيث حطت بنا الطائرة القادمة من استنبول للمشاركة في مهرجان أدبي, للعرب دور فيه, ولغير العرب أيضاً دورهم, حيث سيتلاقى الأدباء القادمون فوق أرض هذه المدينة الرائعة الجمال, ليهمسوا لليل شاكرين همة هؤلاء الراكضين وراء إحياء الثقافة, أو المحافظة على وهجها في زمن الموت والدمار المنتشر على مدى ساحة العالم... لقد اقتنع الناشطون ثقافياً في هذا البلد أن عليهم العمل لإحياء الركود الثقافي الذي بدأ يغزو المجتمعات بنسب متفاوتة, وقد تجاوب الناس مع هذا النشاط, وبدؤوا يتوافدون الى مسرح روماني قديم في تلك المدينة لينصتوا الى صوت الشعر وصوت الموسيقا.. أدركت أن هذا الشعب لا يزال يتمتع بالكثير من الحيوية, كيف لا وهو يأتي بأعداد جيدة نسبياً رغم شدة الحر وكون البلد سياحياً بامتياز.. وأدركت أيضاً أن هذا الشعب مرتبط أشد الارتباط بوشائج قوية بقضايانا, لاسيما القضايا العربية الراهنة, قضية فلسطين, وقضية العراق فما إن يسمعوا باسم فلسطين أو القدس حتى يدوي التصفيق, وما إن يقدم شاعر عربي سيتحدث عن فلسطين والعراق (وبالذات فلسطين) حتى ينصت الجمهور ليتفاعل فيما بعد عبر الترجمة, وعبر نغمة موسيقا الشعر العربي. وقبل هذا ترتاح نفوسنا ونحن نرى الاستقبال والتفاعل الجيد, والطيبة التي تنفح بها الوجوه والتصرفات, والمريح أكثر أن لا فرض على ما نريد قوله مهما طال هذا القول دولاً وأنظمة نراها تناهض قضايا الشعوب بشكل عام, وقضايانا بشكل خاص وتزداد متعة الروح ونحن نقف أمام جمال الطبيعة, وجمال موهبة الانسان, في قرية حباها الله الكثير الكثير من إبداع الخالق والمخلوق.. (أكياكا) القرية المتربعة على عرش محافظة (موكله أو مُقله) فالزائر يُذهل بما يتمتع به من جمال الطبيعة المدهش, لكنه لا بد وأن يدهش بصنعة الانسان الذي أعطته الطبيعة نظرة جمالية متميزة, وقدرة إبداعية أكثر تميزاً في بناء المساكن, حتى ليجد الزائر نفسه متأجج المشاعر المحرضة بفعل تأثيرات هذه المشاهد التي قلّ نظيرها في مدن وقرى اليوم, ومندفعاً الى الانزواء للاختلاء بنفسه وقد هاج في داخله وجع البوح وهو يتذكر ما عليه مجتمعه من حاجة الى العمل, والعمل المتواصل للخروج من مآزق التلوث, وفساد الجو الطبيعي والانساني, لاسيما وأن الله حبانا الكثير الكثير من مناطق طبيعية خلابة لكنها بحاجة الى الكثير من عناية الانسان وإبداعه. وتمر الساعات في مرمريس وأكياكا سريعة, لكن ما علق في الروح والقلب يبقى ويترك تأثيره على مستوى الانسان والطبيعة بشكل عام. وإذ نترك (مرمريس) ونتجه الى (داتشا) تلك الجزيرة الجزيرة التي يحتضنها البحر المتوسط من جهة, وبحر إيجا من جهة أخرى, نتأمل ونتأمل فيدغدغ الروح جمال من نوع آخر, ونقاء تعكسه المياه على كل شيء في هذه الجزيرة التي فتحت ذراعيها مرحبة بضيوفها القادمين من اثني عشر بلداً عربياً وغير عربي, كل يحمل في جعبته بعض خلجات حملها من وطنه ليتركها في الآذان والقلوب وعلى الصخور المنصتة لبوح البحر والانسان.. تذكرت هذه الجزيرة في العام الماضي وهي تستقبلنا لنشارك بتدشين خمسة عشر شارعاً سُميت باسم خمسة عشر شاعراً عالمياً من بينهم محمود درويش ونزار قباني, من قبل القائمين فيها على الشأن الثقافي والإداري السيد حميد عشق خان والسيد رئيس بلدية داتشا.. خمسة عشر شارعاً باسم ناظم حكمت. وآراغون, ومحمود درويش ونزار قباني.. الخ أضحت محجاً لسياح من العالم ومن تركيا, تقول هاهنا يخلد هؤلاء, وبهم تخلد داتشا.. أجل قبل عام, وكان محمود درويش لا يزال يُسمعنا أنغام أوجاعه وبوحه, وقفنا أمام أحد هذه الشوارع وقد وُضعت لوحة على أوله باسم محمود درويش, وعليها نبذة عنه, وهاقد عدنا بعد عام لنقف نفس الوقفة إنما لنقرأ بعض شعره وقد غادرنا قبل أيام بعد أن غدر الموت به هذه المرة وهوالذي تحداه في موته أكثر منه في حياته.. ضاقت روحي وأنا أستعد للسفر الى هذه الجزيرة, إذ ماذا سأقول في مبدع فقدته الانسانية, وقد نزفت جراح قلبه شعراً سيخلده كما خلدته فلسطين?!.. ولكن: هل عاد درويش يروي الأرض من ظمأ وعدنا داتشا بحب منك نأتزر وكما في مرمريس يأتي السائحون الى هذه الجزيرة ليملؤوا المدرج الروماني الى ساعة متأخرة من الليل, وهم ينصتون الى الشعر تهدر به الحناجر التي لاتفارقها غصة وداع الشاعر الكبير, وغصة فقدان كل من ناضل من أجل الانسان والحرية كناظم حكمت الذي كانت ذكراه الرمز والاشعاع في مهرجان داتشا الشعري.. لكن أحلى وربما أغرب ما توقفنا عنده هي تلك المخيلة التي حدت بالسيد حميد منظم هذا المهرجان, الى تنظيم جلستين شعريتين في سوق شعبي كسوق الحميدية, معللاً هذا بقوله: بالأمس أتى الناس إلينا, وتقاطروا من كل صوب الى المدرج الروماني ليلتقوا بالشعراء والموسيقيين, والآن علينا أن نأتي إليهم كي لا ينسى هؤلاء المشغولون بهموم حياتهم والبحث عن الرزق هذه الفنون, ولنبقى على تواصل معهم في كل حالاتهم.. وكانت تجربة أكدت لي بأن علينا فعلاً أن ننطلق من واقع حياتنا دائماً, الذي يفرض الكثير على حياتنا وثقافتنا, وعلينا العمل بكل السبل والطرق كي نواجه مشكلاتنا الثقافية التي ترزح بها ساحة حياتنا الثقافية. |
|