تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


التجزئة السياسية.. سلوك في الظاهر وجذور في العمق

شؤون سياسية
الأربعاء 18-8-2010م
بقلم: د. أحمد الحاج علي

في واقعنا العربي العام تبدو رحلة التبادل بين التقديرات والمواقف مسألة عادية فكم من عنوان كبير تاه أو كاد أن يتوه في تصنيفات الأشياء الصغيرة ،

وكم من مرحلة عزلت عما سبقها وعما تلاها، وكم من نتائج كبرى فسرت في مناخ العتمة لأشياء صغرى ، وكم من مسارِ سلخ عن منظومته وعزل عن سياقه لأننا نحتاج إلى ذرائع تفسر الواقع وحكايا وروايات تريحنا من ضغط الإدانة لأنفسنا.‏

والمنهج العلمي والضرورة معاً يتطلبان هذا الاندماج الكلي وهذا الاتساق الذي يعرف الواقع بكل خفاياه وقواه ويستعد النظرة للمستقبل على أسس ثابتة وبنسبة من الاستطلاع العالي والاستشراف الصادق وعندها نصل إلى نقطتين إيجابيتين ، الأولى أن ندرك تراكيب الواقع وتصانيفه مثل علاقة الاجتماعي بالسياسي والفكري بالتطبيقي والمعنوي بالمادي والقوى بالواقع، ومالم تنجز هذه الصورة الأقرب إلى الشمولية فإن كل مجهودنا حول الحلول سوف يبقى مجرد ادعاءات فردية أو مرحلية ، وأما النقطة الثانية فهي أن نعرف الواقع ونعرف في ذات اللحظة دورنا فيه ومهامنا الاجتماعية والسياسية على قاعدته ، أي أن تتحقق في الرؤيا نزعة المسؤولية حتى نتخلص من الآفاق الكاذبة التي تتهم دائماً الآخر أو الغيب والتي تلقي بكل ظلالها المرة في مفازات ومناطق لاعلاقة للإنسان بها، إن جلد الذات بالاتهام والتقريع لايعادله في السوء سوى التنصل من المسؤولية واحتجاز سلوك لحساب أسباب فردية وتعسف قصيت يجعل من الجزء المحاصر في الزمان والمكان سبب الأسباب وعلة العلل ، إن ما نحتاجه وقد غاب عنا طويلاً وغبنا عنه مراراً هو أن ندرك واقعنا بآفاقه وشموليته وفعل وتفاعل كل عنصر فيه مع العناصر الأخرى وأن نحمل المسؤولية بشجاعة ونعترف بأن دورنا الغائب - أينما كانت مواقعنا - هو تسيب وهو فرصة متاحة على مصراعيها لكي تتشكل قوة الاندفاع الخارجي نحونا وقوة التآكل الداخلي في ذاتنا ونحاول في هذا المقام أن نتخذ من التجزئة نموذجاً نظراً لما فيها من قسوة الحضور على الواقع ونظراً لاعتراف جميع الأطياف السياسية و الاجتماعية بوجودها وخطر هذا الوجود .‏

وها نحن سلفاً قد بدأنا البداية المريضة والبداية المريضة هي التي ستؤدي إلى استنتاجات ونتائج مريضة وعاجزة في النهاية ، لقد اعتدنا أن نحصر التجزئة في الواقع السياسي الرسمي وأن نعزل هذه التجزئة عن منابعها وأسبابها من جهة وعن منظومتها الفكرية والنفسية والمسلكية من جهة أخرى ، وحينما انحصر فهمنا ووعينا لظاهرة التجزئة في الجانب السياسي والرسمي تنازلنا مباشرة عن دورنا في مواجهتها نظراً لأن القوة الرسمية والسياسية لاتقاوم ولايمكن الاتفاق على ضرورة إسقاطها ، أركز على هذه النقطة لكي نندفع مع التجزئة بخصائصها ومساربها وحتى لاتضيع منا الرؤية ونرى في التجزئة ظاهرة مرضية خارج ذواتنا وبعيداً عن أماكن تواجدنا الجغرافي والاجتماعي والسلوكي والتجزئة مثل الوحدة كلاهما يقوم على مجموعة من الأنساق والتفاعلات تبدأ بالاعتقاد الشخصي وتمر بحالة السلوك الفردي والجماعي إلى أن تستقر على شكل صياغات وخلاصات تعبر عن الواقع وتؤشر على درجة الخلل فيه ، لكن الفارق بين التجزئة والوحدة هو أن التجزئة مرض بينما الوحدة صحة وعافية وتبقى آلية الوصول إلى التجزئة أو الوحدة منوطة بشروط وعي الإنسان وإدراكه لمقومات الواقع وتحديده للقوى الفاعلة في هذا الواقع وبناء معرفته على القواعد القابلة لكي تتحول الى موقف وقرار وسلوك ، إن التجزئة السياسية هي المحصلة العامة لمجمل وجود و تفاعلات أنواع التجزئة ومستوياتها جميعاً فتجزئة الإنسان مع ذاته هي المصدر الأخطر لأنه لايعرف موقعه ودوره ومهامه لكنه يلقي على الأفق غير المحدد بكل آلامه دون جدوى وتجزئة الإنسان مع سلوكه إلى حد التناقض مصدر آخر لابد أن يضاف الى قصة التجزئة بكاملها ، ووجود هذا التصادم بين القيم والعقل والضرورات مع صور التخلف وطغيان العشائرية والمذهبية والإثنية ، كل ذلك مقومات في التجزئة تقع في المنبع وتصب في قلوب وأذهان الناس ، ثم إن هذه التجزئة في ذات الإنسان الفرد على وجه التحديد وهو يركز على ذاته ويرفض الانضمام أو التحيز للآخرين ومعهم ويلهيه التكاثر ولاينسى أن يتشدق بقيم الدين والعروبة والفضائل في ذات اللحظة التي يندفع أهوجاً مدمراً يسرق جهد الناس ويبني سعادته المزعومة على حساب المعذبين في الأرض من الكادحين ومن الباحثين عن لقمة العيش تحت أقسى الظروف البشرية والطبيعية ، والتجزئة متغلغلة في الفرد ذاته وقد ألفها وتكرست هي فيه حتى لقد صار سلوك الإنسان العادي هو الخطر الأكبر في موضوع التجزئة وصرنا نشهد شرائح وطبقات تتصدى لحدود الله تخرقها وتخترقها وهي تعلن أنها تفعل ذلك في سبيل الله ذاته وامتثالاً لأوامره ، و رمضان بين أيدينا بل نحن بين أيديه ووحدهم الفقراء والكادحون هم الذين مازالوا يعمرون الأرض ومازالوا يكتوون بالمعاناة ومازالوا يصومون صابرين محتسبين وهناك على الجانب الآخر بل في كل موقع من لايتورع عن رفع الأسعار وعن الغش والتدليس وعن الاحتكار والتجارة الحرام لأن الهدف لدى هؤلاء هو أن يحصلوا على الربح الفاحش حتى ولو جمعوا ذلك من أعصاب البشر وجلودهم وحتى لو أدى ذلك إلى أن يلهث الإنسان العربي خلف الرغيف فلا يكاد يلحق به في ظرف تكون فيه الشقق الفاخرة والقصور الضخمة متخمة بالملذات والاستهلاك والانحراف المادي والمعنوي ، هنا تكمن التجزئة فكيف يدعي هؤلاء المثقلون بالمال والاستهلاك أنهم مسلمون أو أنهم عرب ولديهم قضايا وحقوق مستلبة ؟ كيف يحق لنا أن نستبعد بعد ذلك التجزئة السياسية بما فيها من نتائج ومحصلات وما تؤول إليه من بيع وشراء بالقضايا القومية؟!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية