|
كتب يوم شهد العالم تمازجاً ثقافياً أعطى حضارة لا حدود لها. واليوم تزداد الترجمة حضوراً وتترسخ سبيلاً إلى التفاعل الخلاق ليس انطلاقاً من مقولة من عرف لغة قوم أمن شرهم بل لنضيف إلى ذلك من عرف لغة قوم اكتسب معارفهم وعلومهم. كتاب اليوم ممهم ومتميز صادر عن المنظمة العربية للترجمة بيروت تأليف انطوان برمان ترجمه إلى العربية وقدم له الدكتور عز الدين الخطابي. بيان الترجمة في مقدمته يضع المترجم مقطعاً للجاحظ سماه بيان الترجمة وفيه يقول الجاحظ: وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسناً وبعضها ما انتقص شيئاً ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة ومن لسان إلى لسان حتى انتهت إلينا وكنا آخر من ورثها ونظر فيها. ويضيف في مقدمته قائلاً: شكلت أعمال المفكر الفرنسي الراحل انطوان برمان في مجال الترجمة مرجعاً أساسياً ليس بالنسبة إلى المهتمين بهذا الحقل فحسب بل أيضاً بالنسبة إلى المفكرين والباحثين في حقول الفلسفة واللسانيات والأدب والانثربولوجيا. ذلك أن الترجمة كما يراها برمان هي طاقة ومنبع للخلق والإبداع وبهذا المقتضى يمكنها أن تكون مكاناً لاستقبال الغريب (المتمثل في لغة الآخر الأجنبي وثقافته) وهي أيضاً انفتاح وانصات وتحاور وتفاعل مع الآخر ويتعين عليها مناهضة النزعات المركزية العرقية والثقافية. ويقدم المترجم في دراسته الأولية ملامح التصور البرماني للترجمة وهي أربعة ملامح تختصر الكثير من عالم الترجمة وهي مفتاح الكتاب. 1- مناهضة التمركز العرقي: يعرف برمان الترجمة المتمركزة عرقياً بكونها تلك الترجمة التي ترجع كل شيء إلى الثقافة الخاصة للمترجم وإلى معاييرها معتبرة كل ما يخرج عن إطارها (أي كل ما هو غريب) سلبياً يتعين إخضاعه وتحويله إلى المساهمة في إغناء هذه الثقافة. وقد وقف عند بعض مضار هذا التحويل ومنها العقلنة، التوضيح، التطويل، التبسيط، التفخيم، الاختصار، المجانسة، حذف الإيقاع... الخ، وهذه العمليات لا علاقة لها بالترجمة الحرفية لأنها تشوه النص الأصلي وتبعده عن مقاصده لذلك فإن ترجمة الحرف ستكون بمثابة تجاوز هذه الانحرافات لأنها تسعى إلى أن تكون أمينة تجاه الأصل قدر المستطاع. حاول برمان إبراز مفهومه للترجمة الحرفية من خلال نماذج ترجمية لكل من شاتوبريان وهولدرلين وكلوسوفسكي مبيناً أن الترجمة الحرفية الحقيقية وليست الناسخة أو المكررة لعبارات الأصل بشكل ساذج هي التي تسمح بتجاوز معضلات تحويل الأصول وتشويهها. 2- عن الأمانة والخيانة: في مؤلفه المهم «التعرف على الغريب» رأى برمان أن وضعية الترجمة ليست غير مريحة فقط بل تعتبر مشبوهة أيضاً سواء لدى الجمهور المتلقي أم لدى المترجمين أنفسهم وتساءل كيف يمكن اليوم استخدام المثل الإيطالي الشهير «الترجمة خيانة» للتشهير بالترجمة على الرغم من بروز أعمال مترجمة رائعة ليستدرك على الفور قائلاً: إن مجال الترجمة ما زال يثير مسألة الأمانة والخيانة إلى أن يقول: إن الترجمة تستدعي إقامة علاقة تبادلية وتفاعلية بين الذات والآخر وإلا فقدت أساس وجودها فهدفها الأخلاقي يتناقض مع الهدف الاختزالي للثقافة المتمركزة عرقياً. 3- حول أخلاقية الترجمة: يقول برمان: إن الترجمة تنتمي في الأصل إلى البعد الأخلاقي لأن غايتها أخلاقية فهي ترغب عبر ماهيتها ذاتها في جعل الغريب منفتحاً كغريب على فضائه اللساني الخاص ولا يعني هذا أن الأمور تمت تاريخياً ودوماً على هذا الشكل بل على العكس إن الغاية التملكية والاستحواذية المميزة للغرب غالباً ما عملت على خنق الميل الأخلاقي للترجمة لأن منطق عين الذات كان هو المنتصر دائماً ومع ذلك فإن فعل الترجمة يرتبط بمنطق آخر هو منطق الأخلاق لهذا نقول مستعيرين عبارة جميلة لشاعر جوال: إن الترجمة هي في ماهيتها «مقام البعد». وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تعرف الترجمة فقط بألفاظ التواصل وتبليغ الرسائل كما إنها ليست نشاطاً أدبياً وجمالياً خالصاً فالكتابة والتبليغ يكتسبان معناهما عبر الهدف الأخلاقي الذي ينظمهما وتتمثل إحدى المهام الأساسية لنظرية الترجمة في تحديد هذا الهدف الأخلاقي بالضبط وبالتالي في إخراج الترجمة من الشرنقة الأيديولوجية التي توجد فيها. 4- الترجمة والتأويل: إن ما يهمنا بهذا الخصوص هو الارتباط الحاصل بين الترجمة والتأويل من منطلق أن فعل الترجمة مقترن بالفهم وهذه هي الفكرة التي دافع عنها جورج شتايز في مؤلفه المهم ما بعد بابل وصاغها بشكل بليغ في عبارة وجيزة وهي «أن نفهم معناه أن نترجم» ففعل الترجمة يقتضي فهم وإدراك معاني النص الخاضع للترجمة أي تفكيك رموزه ونقل دلالاتها إلى لغة أخرى وتكمن صعوبة النقل في الاختلافات بين اللغات وتفردها وتميز رموزها المعبرة عن العالم وهذه هي مشكلة بابل أي بلبلة الألسن فلكي يمر مضمون رسالة اللغة الأصلية ويتم استيعابه يتعين على المترجم تفكيك رموزه وإخضاعها لسياقات ومقتضيات اللغة المستقبلية. نشير إلى أن الكتاب يتوزع على ستة فصول مهمة هي: الترجمة المتمركزة عرقياً والترجمة التحويلية- تحليلية الترجمة ونسقية التحريف- أخلاقية الترجمة- هولدرلين أو الترجمة كتّجل- شاتوبريان مترجماً ميلتون- إيناذة كلوسوفسكي. ويستغرق مئتي صفحة من القطع المتوسط. اسم الكاتب: الترجمة والحرف أو مقام البعد. - اسم المؤلف: انطوان برمان. - اسم المترجم: د. عز الدين الخطابي. - اسم الناشر: المنظمة العربية للترجمة. - الموزع: مركز دراسات الوحدة العربية. |
|