|
كتب يجيب: وفقاً لرؤيتي الجمالية أعتبره رواية ، لكنني لا أرغب في فرض رأيي هذا على أحد. فهناك حرية هائلة كامنة في الشكل الروائي ولذلك فمن الخطأ اعتبار إحدى الأشكال أو الأنماط بمثابة جوهر الرواية وحصنها المنيع.
لم يرى كونديرا ضرورة في اعتماد حبكة تقليدية لربط أركان العمل.. وعلى هذا الأساس جاء (كتاب في الضحك والنسيان)، معتمدا ما يطلق عليه (القدرة التخليقية) الكفيلة ببث الربط بين أشياء كثيرة وصولاً إلى وحدة العمل- الموضوع- الذي يتجلى هنا في عنوانين (الضحك والنسيان) السخرية أو الأسلوب الساخر يتبدى بملامح لاتصل لمستوى الشغل الملحوظ على موضوعية النسيان .. المجاهر بها على الملأ.. وكأنما تأتي خلافاً لملفوظها. تشغله هذه الموضوعة لأنها تمس أفق الساسة في بلاده.. النسيان رديف للموت وهو إحدى المشكلات الكبرى لأولئك السياسيين الذين وضعوا نظاماً مبرمجاً لمحاربة الذاكرة.. تم دفن ذاكرتهم الأدبية في التشيك طوال 12 سنة، قوائم شل الذاكرة اشتملت على مئتي كاتب منهم فرانز كافكا وفصل 140 متخصصا في التاريخ. يدرك مبلان كونديرا أن الأمة التي تفقد وعيها بالماضي تفقد ذاتها بالتدريج ولذلك يحارب نسيانهم المنظم بأداة الذاكرة المكتوبة.. يسرد تفاصيل تجاهر بالحاصل في بلاده.. مقترباً من غاية التوثيق، يتتبع ما حصل بدءا من سنة 1939م حين اجتاحت الجيوش الألمانية بوهيميا وقضت على دولة التشيك مرورا بدخول الجيوش الروسية البلاد سنة 1945 م، حتى سنة 1969م عندما نصب الروس الرئيس السابع في بلد كونديرا غوستاف هوساك الذي أقام حروباً لم يعرف تاريخ الشعب التشيكي منذ عام 1621م لها مثيلاً لتلك التي تقام في حق الثقافة والمثقفين. لا يهتم الروائي للتسلسل التاريخي في سرده هذه الأحداث، إنما يوردها دونما مراعاة لعامل الزمن.. الذي لا يعتبره ذا أهمية في عمله. وغالباً ما ترد المعلومات الواقعية والحقائق التاريخية عندما يظهر صوته الخاص ضمن لعبة من الأصوات المتعددة.. يتوارى صوته حيناً خلف صوت السارد وحيناً آخر يظهر بكل مباشرة دون أي مواربة أو حيل فنية. ولربما كانت هذه إحدى تفانين جمالياته التي تجعله يؤمن أن كتابه هذا ليس إلارواية خالصة.. بينما يمكن بيسر للقارئ اعتباره مجموعة قصصية تأتي ضمن أجزاء منفصلة إلا بظهور شخصية واحدة تأمينا في قصتين الرابعة والسادسة المعنونتين الرسائل المفقودة والملائكة.. شخصية لاتتحرر بدورها من عبء النسيان، تريد حفظ ذكريات زوجها الميت من التلاشي والتلف.. تريد أن تحفظ ماضيها معه. معظم شخصياته لديها هاجس يربطها بثنائية الذاكرة -النسيان تماما يبدوان وجهين لعملة واحدة، ما هو ذاكرة لدى البعض ليس من جهة أخرى إلا نسياناً واجباً فرضه لدى البعض الآخر.. هي لا تتوخى إضفاء شاعرية على الماضي بقدر ما ترمي إلى أن تستعيد جسده المفقود ما يدفعها ليس الوازع الجمالي بل الرغبة في الحياة.. إنها ترغب في استرجاع كراساتها لكي تشيد جدراناً لهيكل الذكريات الهش الذي أقامته في دفترها فيصبح بذلك بيتاً تأوي إليه. أيضا ضمن تنويعاته المباحة في ساحة الأدب الروائي يمكن أن يجنح قلم كونديرا إلى نوع يفيض بمبادئ المقال ، ولاسيما في مقدمة الجزء الخامس المعنون «ليتوست» يبدو ذلك في استفاضته شرحا لمعنى هذه الكلمة.. يقول الليتوست حالة من العذاب ناشئة عن مشهد بؤسنا الخاص المنكشف فجأة.. ويشكل الحب أحد العلاجات المألوفة من بؤسنا الخاص، هذا لأن الشخص المحبوب حباً تاماً لا يمكن أن يكون بائساً فكل العيوب تتغاضى عنها نظرة الحب السحرية. إن المطلق في الحب هو في الحقيقة رغبة في التماهي المطلق.. ومن خبر نقص الإنسان أمن نسبياً من صدمات الليتوست.. نبرة السخرية- الضحك تظهر في هذا الجزء عندما يفترض اجتماعاً بين شعراء بلاده يلقبهم بأسماء كبار أدباء أوروبا، مثل: غوته، ليرمنتوف، بركاس، بترارك، فولتير.. المشهد الذي يرسمه كونديرا يميل نحو مبالغات كفيلة بخلق صورة لمواقف كوميدية بينهم.. كقوله لم يشأ غوته ذو الطبع الودود الاستمرار في مضايقة ليرمنتوف، لكن فولتير تدخل هازئاً: كونك مليئا بالعقد أمر باد للعيان يالير منتوف. الكتاب: رواية كتاب في الضحك والنسيان - المؤلف: ميلان كونديرا - ترجمة: محمد التهامي العماري. - الناشر: المركز الثقافي العربي- المغرب 2009م. |
|