|
تحقيقات يدفعهم البؤس إلى التراكض أمام السيارات, وعلى الأرصفة من أجل مبلغ زهيد, يجهدون للحصول عليه بشتى الوسائل.. ينام في العراء علمنا عن طريق ابنة جيراننا في الطابق الرابع, والتي لم تتجاوز سنتها الثامنة, أن هناك شخصاً ينام في شرفة الشقة الأرضية, وهي الوحيدة المهجورة في بنايتنا, في البداية بدا الأمر غير قابل للتصديق, إذ كيف يعقل أن ينام شخص في العراء في برودة ليل الشتاء, نزلت إلى المكان مصطحباً بطارية بيل, فرأيت شيئاً مكوماً في الزاوية الغربية للشرفة, ملتفاً ببطانية مهترئة, وعندما تأكدت أنه طفل لم يكمل الثامنة, حضرت إلى ذهني قصيدة نازك الملائكة الشهيرة ب (النائمة في الشارع) والتي لم أكن أتخيل أنها قد تحدث في مدينة دافئة ومترابطة بعلاقات القربى, كمدينة السويداء, ولكن إذا كان مثل هذا قد حدث على بعد أمتار من بيتي, فلماذا لا نصدق أنه يحدث حولنا وفي عالم المدينة المتغير? أيقظت الطفل فوقف متراخياً, وعندما أدركت كم هو خائف, رحت أهدئ من روعه وأطمئنه, ومع ذلك ظل متردداً في الإجابة على أسئلتي, من أنت? ولماذا تنام هنا? أين أبوك وأمك? وأقاربك ..الخ? وباختصار: ترك (ي) المدرسة قبل مدة, أمه مطلقة وتعمل في لبنان وأبوه متزوج من أخرى ولكنه أي الأب كما فهمنا من الطفل, يعمل في دمشق, أما الطفل فضائع بين الأب, حيث خالته, وبين بيت الجد, ولسبب ما فقد فضل هذه الزاوية الباردة والمظلمة, لينام فيها ثلاث ليال متتالية, دون أن يلتفت إلى وجوده أحد.. تساءلت لماذا اختار هذا الطفل زاوية بنايتنا دون سواها, وتذكرت في الحال أن طفلاً دق باب شقتنا قبل أسابيع من هذا التاريخ, وسأل إن كانت لدينا ثياب تناسب حجمه يرتديها إلى المدرسة, وبعد أن سألته عن عمره واسمه ومدرسته, غادر مصطحباً معه مبلغاً متواضعاً وبعض النصائح, وكانت المفاجأة أنه الطفل نفسه, فقد تعرفت عليه زوجتي قبل أن يعرف بنفسه, أثناء تسليم الطفل (ي) إلى أبيه في بيته, تبين لنا تهرب الطفل ربما بسبب الخوف من الضرب, وعندما عرض أحد الأشخاص تعهد الإشراف اليومي على الطفل وتأمين لوازمه وإيصاله من وإلى بيته ومدرسته, وحتى تعليمه مصلحة ما أمكن, رد والد الطفل بطريقة محبطة: وماذا لو قام بسرقتك?! قبل ذلك كنت قد توقفت عند قصة, يعرفها الكثيرون, وهي أن ثمة امرأة تتخذ من زاوية قريبة من ساحة المدينة مأوى مع ابنها الطفل, وعندما تأكدنا من صحة الأمر, قمنا بإخبار الشؤون والرعاية, وجاءت الإجابة أن المرأة مضطربة نفسياً, وسبق أن أودعت دار الرعاية, ولكنها هربت, وهي ترفض إلا أن تعيش على طريقتها, تساءلت: والطفل, أي طفولة يعيش, وأي تربية يتلقى?! قد يظن البعض أن هاتين الحالتين قد تحدثان في أي زمان وأي مكان, وهذا صحيح, ولكن ماذا عن القصص الأخرى?! الأب محكوم وأصحاب المهن يستغلون الأولاد! عند زيارتنا بيت والد (ر) أثار استغرابنا وقوع البيت في قلب المدينة, وانتماء الأب إلى عائلة كبيرة, تضم شريحة من ملاكي الأراضي والعقارات والمتاجر, كان بيت والد الطفل مؤلفاً من غرفة واحدة في دار قديمة ورثها عن أبيه, ومع ذلك فوضع الأسرة مقبول حالياً, ولكن يبدو أن سنوات من المعاناة والعوز مرت على هذه الأسرة, وأن الأولاد الذين عانوا مع أمهم ما عانوه وكبروا في غياب الأب, تجاوزوا الأسوأ ونجوا من الآثار القاسية لتلك الظروف, فحتى هذا البيت لم يكن متاحاً, ولابد أن تضحيات الأم والزوجة وتربيتها المثالية, رغم كونها أمية, لم ينل من تصميمها وكفاحها لتجاوز العثرات وتعليم أبنائها ما أمكن, تقول: لقد نشأ الأولاد في ظرف كان فيه تأمين رغيف الخبز مشكلة, ومع ذلك فالمجتمع لا يرحم, حالياً الأبناء يعملون, وقد تحسنت الأوضاع بعودة الأب, ورغم كونه عاطلاً عن العمل بسبب ظرف صحي, ولكنه يلجأ أحياناً إلى مساعدة أبنائه في مهنتهم, وهي جمع علب الكرتون الفارغة وبقايا الزجاج من الشوارع والأزقة وحاويات القمامة, لبيعها للمعامل في دمشق, وتأمين مصروف الأسبوع! كان شبح ضياع الأولاد يتربص بالأسرة, فالشارع مخيف و(المصاري بتغري) ابني الكبير ليست لديه رغبة في الدراسة.. حاولت إقناعه دون نتيجة, قلت أضعه في محل -يتعلم مصلحة مثلاً- لكنه واجه ما واجهه الكثيرون ممن كانت لديهم أو لدى أهلهم رغبة في تعلم مصلحة ما, من قبل بعض أصحاب المهن الذين يستغلون الأطفال, ويتعاملون معهم بشكل مهين ولا يرحمونهم من الشتائم والتأنيب والضرب أحياناً, وفي آخر النهار يرمونهم بأجر زهيد دون أن يسمحوا لهم بتعلم المهنة.. لهذا ومن واقع معاناتي مع ابني, فقد وجدت أن الشارع ربما يكون أحياناً أرحم من بعض أرباب العمل.. لكني بدأت أفقد الثقة والإحساس بالأمان.. تتساءل وقد كان صبرها ينفد: أما آن لنا أن نعيش مثل بقية خلق الله!. أخ قاس وأخت تثير الغيرة! قادنا الدليل إلى منزل حجري مؤلف من غرفة واحدة مع ما يشبه المطبخ, تحيط به الخرائب, عند نهاية السلم, استقبلنا رجل في حوالي السبعين.. بدا متعباً ومريضاً, عرفنا فيما بعد أنه عمل في إحدى الدوائر الحكومية ثم أحيل إلى المعاش بعد أن أنهكه المرض, إلى جانبه عدد من الأولاد بأعمار مختلفة, بينهم شاب في مقتبل العمر, بدا قوي البنية, وهو يرمقنا بنظراته الساخطة المرتابة, حاولنا شرح دوافع الزيارة, غير المرحب بها, بالقول: أردنا فقط التأكد من حقيقة ما رواه الطفل.. وهو أن أخاه الأكبر يفرض عليه أن يشتغل في الشارع, وأنه يهدده بالضرب, إذا عاد إلى البيت دون تأمين مبلغ لا يقل عن 150 ليرة, وأن هذا الأخ وفق رواية الطفل, يأخذ منه النقود ليصرفها على لباسه, أو ليشتري بها ملابس وهدايا لأخته المدللة, وحين سألنا الطفل عن موقف والده أجاب: إنه يتجاهل ذلك, ويدعي المرض تهرباً من العمل والمسؤولية! في الواقع لم يكن الأب متمارضاً كما وصفه الطفل (ص), بل هو مريض فعلاً, وقد داهمته نوبة الربو بينما كان يحاول الإجابة على أسئلتنا, وارتبك عند سؤاله عن أعمار أبنائه التسعة, فكنا كلما سألناه تولى أبناؤه الإجابة عنه, وقد أخبرتنا الفتاة في الرابعة عشرة أن أخيها (ض) يهوى اختراع القصص, وحول حكاية الهدايا قالت: نعم أخي يحبني, ويدللني ويشتري لي ما أطلب.. وهو الوحيد الذي واجه ظلم وقسوة أهلي, ولولا محبته لي لما بقيت دقيقة واحدة في هذا البيت, لكنه أحياناً يؤنب (ض) إذا تأخر عن البيت, حرصاً عليه لكنه لا يضربه ف (ض) كذاب!. كانت تتحدث بينما الأب المسكين يبتسم مبدياً موافقته على ما تقوله الابنة, وتبين لنا أن الطفل (ض) ربما يفعل ذلك لكي يحظى بشيء من الاهتمام أو بدافع من الغيرة, تجاه أخته المدللة, حسب رأيه, وفي الحقيقة لم نرد من عرض هذه الحالات أكثر من لفت الانتباه إلى ما يحدث حولنا, من مآس نتحمل جميعاً المسؤولية تجاهها, فقد تقسو ظروف الأهل ويغفلون عما يتهدد أطفالهم في الشارع, من ضياع وتشرد وتعب ومرض, هذا في حال لم يقعوا ضحية حادث ما! وحول هذه الظاهرة يقول الباحث الاجتماعي أنس الصفدي: إن بذور المشكلة تبدأ عندما يرى الطفل تلك البيئة التي يسعى لاكتشافها واكتساب ثقافتها والتأقلم معها, هي بيئة الشارع, ليجد نفسه وقد استفاق الطفل من حلمه الجميل, مضطراً للعمل بها, هذا الشارع الذي يسلب الطفل زهرة حياته ويحرمه من أن يحيا أجمل لحظات عمره ويحوله إلى مجرد مستعط ينتقل من فرد لآخر مستجدياً المشاعر, بعد حرمانه من حنان الأسرة وإشرافها المباشر, وأن هذا النقص في التربية سيكون له آثار سلبية مدمرة لابد أن تظهر في مرحلة ما, ربما تكون المراهقة أو الشباب فبعد خروج الطفل من المنزل وتركه للمدرسة سيكتسب ثقافة الشارع, المتمثلة في بعض العادات والتقاليد السيئة, والتي يعتقد الطفل للأسف بأنها مشروعة, قد تبدأ بالسرقة ولا تنتهي بالعنف والإدمان على التدخين والمخدرات والشذوذ والجريمة. خلاصة تؤكد الحالات المذكورة الأسباب التي قد تدفع بالأطفال بعيداً عن منازلهم, سواء أكانت اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية, وبتأثير سوء التربية أو التفكك الأسري, أو الفقر أو الجهل أو التعرض للعنف أو حتى عدم توفر فرص العمل, كما تعكس الحالات السابقة تأثير وفاة أحد الأبوين, أو غيابه أو سفره أو الطلاق وزواج الأم. وإذا كنا عاينا في إطار هذا التحقيق الذي تم بمبادرة من السيدة سميرة عزام, قرابة 30 حالة مختلفة لأطفال أو أحداث, هم بأمس الحاجة إلى اهتمام المجتمع ورعايته, فهناك عشرات القصص المشابهة في مدننا, يقع ضحيتها أطفال أبرياء, كل ذنبهم أنهم خلقوا في بيئة تنقصها مؤهلات التربية السليمة, إذ إن الطفل الذي يواجه علاقات الاستغلال والاضطهاد يتعرض لأضرار جسدية ونفسية, ما يولد لديه الشعور بالدونية والحقد, على المجتمع, خاصة الأسرة التي يعتبرها مسؤولة عما تعرض له وإذا كانت حماية الأطفال ورعايتهم من أولى مسؤوليات المجتمع بمؤسساته التربوية والاجتماعية والاقتصادية فإننا نهيب بهذه الجهات وخاصة الجمعيات الأهلية, أن تأخذ دورها في معالجة جذور هذه الظاهرة, فأطفالنا هم المرآة التي تعكس قيمنا وثقافتنا وإنسانيتنا وصورة مستقبلنا, وهم الاستثمار الأهم والخامة الأولى في التنمية الاقتصادية والاجتماعية, فهل نعطيهم ما يستحقون من رعاية أو ترانا نشيح بوجوهنا وضمائرنا عنهم?!. |
|