تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مسوحات 2000 حو ل عمالة الأطفال في سورية...أرقام مبالغة لعدد الأ طفال في سوق العمل..وتردي الواقع الاقتصادي في قفص الاتهام‏



تحقيقات‏
الأربعاء 15/2/2006م‏
خالد محمد خالد سمر رقية‏

حتى عهد قريب لم يكن ينظر الى عمل الأطفال بالأهمية التي يستحقها, بل بمزيد من‏

اللامبالاة والفتور وهو يمارس بشكل واسع‏

الى حد أن المجتمع أخذ يتقبله باعتباره جزءاً من النظام الطبيعي للأشياء, مما أدى الى تفاقم المشكلة واستفحالها بلا ضابط ولا رابط وجعل إمكانية علاجها أمراً متعثراً.‏‏

ورغم أن عمالة الأطفال تعد خرقاً للقانون الدولي, فإن كثيرين في مجتمعاتنا يعتقدون أن عمل الأطفال هو أمر طبيعي, بل وضروري لتنشئة الطفل تنشئة تمكنه من الاعتماد على نفسه في المستقبل.‏‏

وتشير التقديرات الأخيرة لمنظمة العمل الدولية الى وجود حوالي 352 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5-17 سنة يعملون حالياً ومن بينهم 246 مليون طفل يعملون في مهن خطرة وغير مقبولة والتي تشكل تهديداً لصحة الطفل من الناحية الجسدية والعقلية والمعنوية..‏‏

وتقدر ظاهرة عمالة الأطفال في الوطن العربي بحوالي 9-10 ملايين طفل وتشكل نسبتهم 15% الى مجموع الأطفال.‏‏

ولا بد من الاعتراف بعدم امكانية التوصل الى أرقام دقيقة ومعلومات شاملة حول حجم المشكلة عندنا في سورية نظراً للصعوبات و المشاكل المرتبطة بتنفيذ المسوحات والاستقصاءات الخاصة بالأطفال العاملين ووجود الكثير منهم يعملون بصورة سرية وغير قانونية.‏‏

وتشير مسوحات عام 2000 إلى أرقام مبالغة في عدد الأطفال المستخدمين في سوق العمل .. مما يعني أننا بحاجة إلى مسوحات وطنية تضع المشكلة في نصابها الحقيقي.‏‏

إن هذه الأرقام والاحصائيات بحاجة الى خطوات عملية وملموسة تترجم التعامل معها والجهد المطلوب أكبر..‏‏

فالأطفال يزاولون أعمالاً ضارة ولا تتناسب مع أعمارهم, متجاوزة مسألة المهن الشاقة جسمانياً الى مسائل أخطر وأكبر كالعبودية والاستغلال والسرقات والتسول..‏‏

كما يمكن أن يتورطوا في أعمال تتنافى مع القانون ويمكن أن يكونوا فريسة سهلة للإغواء وممارسة الرذيلة والانحراف والشذوذ.‏‏

الفقر ثم الفقر‏‏

إذا حاولنا استعراض بعض الأساليب الكامنة وراء ظاهرة تشغيل الأطفال فإن الفقر هو أبرزها, لأن الطفل يزج بشوق العمل لإعالة ذويه ويساهم عادة ب20-25% من دخل الأسرة.. وتقرير اليونيسف عن الطفولة عام 2005 ذكرأن حقوق الطفل بدأت تتعرض للانتكاس بسبب ثلاثة عوامل أساسية يأتي في مقدمتها الفقر!?‏‏

إن الفقر يقوض اللبنات الأسرية والمجتمعية والتي توفر الحماية للأطفال, مما يعرضهم لمخاطر الاستغلال والإساءة والعنف.. كما أن الفقر يحد من قدرة الأسر على رعاية أطفالها ويتخذ الفقر العديد من المظاهر والكثير من الأبعاد, إنه كما يصفه التقرير (تقرير اليونيسف) يهدد جميع نواحي الطفولة بحرمانه الأطفال من القدرات التي يحتاجها للبقاء والنماء والترعرع, كما أنه يرسخ ويوسع نطاق حالات التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والفوارق بين الجنسين التي تحول دون تمتع الأطفال بتكافؤ الفرص.‏‏

إن الفقر أثناء الطفولة أحد الأسباب الجذرية للفقر في مرحلة الرشد, ويكبر الأطفال الفقراء في أحيان كثيرة ليصبحوا أمهات وآباء فقراء أيضاً يقومون هم بتنشئة أطفالهم في جو من الفقر ولكي يتم كسر حلقة الفقر هذه, فإن عملية خفض الفقر يجب أن تبدأ بالأطفال.‏‏

آراء ودراسات‏‏

الدكتور نبيل مرزوق وفي دراسته حول البطالة والفقر في سورية ذكر أن عمالة الأطفال تترافق عادة بعوامل رئيسية مرتبطة بمستوى الدخل وعمل أو بطالة البالغين في الأسرة وعمل الأم ومستوى دخلها, ويشكل التعليم ونوعيته والآفاق المرتبطة به عاملاً مؤثراً بين هذه العوامل, حيث تفتقد الأسرة للدوافع والتضحية والاستثمار في التعليم, عند تدني مستوى التعليم وخاصة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية, وانعدام فرص العمل بالنسبة للخريجين.. وتفسر هذه الأسباب والعوامل ارتفاع نسبة التسرب من التعليم الابتدائي والإعدادي .. وتتجه نسبة كبيرة من الأطفال في هذه الأعمار للعمل في القطاع غير المنظم والحرفي الصغير, وهذه الظاهرة وإن كانت في جزء منها مرتبطة بالتعليم المهني والحرفي إلا أنها كظاهرة متكاملة تعبر عن التدني في مستوى المعيشة والدخل للأسرة وبالتالي الفقر بشكل عام, تنعكس عمالة الأطفال بشكل عام في زيادة معدلات البطالة بين البالغين وخاصة في الأعمال والصناعات والحرف التي لا تتطلب تأهيلاً محدداً أوجهداً خاصاً من قبل العامل.‏‏

أما الدكتور علي خضر وخلال محاضرته في ورشة العمل التي عقدت مؤخراً حول عمالة الأطفال فقد تحدث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية لعمل الأطفال في سورية وعمالة الأطفال ومردها للوضع الاقتصادي والمعاشي المتردي لنسبة مرتفعة من المواطنين وارتفاع نسبة الفقر والتسرب الدراسي ورغبة طيف واسع من أفراد المجتمع السوري ممن يعملون في أعمال مهنية أو حرفية بتوريث أبنائهم أسرار وفنون هذه الأعمال وتحفيز الأهالي لأبنائهم بالالتحاق ببعض الأعمال الفنية (ميكانيك- كهرباء- الكترون- حدادة- نجارة- سباكة) نظراً لما تدره من عوائد جيدة وكذلك تتعزز لدي شريحة واسعة من المواطنين بزج أولادهم في الحياة العملية المبكرة إيماناً منهم بأن الشهادات التعليمية الوسطى والعليا لم تعد تحقق لحامليها الحياة الحرة الكريمة من حيث العائد الاقتصادي.‏‏

وأخيراً: البيئة الاجتماعية المحيطة التي تجعل الأطفال يشدون بعضهم بعضاً نحو الانخراط بالعمل في سن مبكرة لنيلهم الحرية والاستقلالية الشخصية والمالية.‏‏

الدكتور عدنان عباس حميدان تحدث في هذه الورشة:إن معالجة مشكلة الأطفال في سورية تحتاج الى جهد مشترك ومسؤولية جماعية بين المنظمات الدولية و لاسيما منظمة العمل الدولية ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والجمعيات الأهلية والهيئات المعنية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتربية الأطفال وتدريبهم وتأهيلهم وتعليمهم بالإضافة الى استخدام البرامج الفاعلة والتي تحتاج الى معلومات إحصائية دقيقة لتحديد هدفين:الأول القيمة المضافة التي يمكن تخصيصها لاستثمار القوى العاملة والثاني إجمالي تكاليف فرص العمل المخطط لها.‏‏

الدكتور علي رستم من المكتب المركزي للاحصاء: إن مفهوم عمالة الأطفال هي ممارسة الأطفال الأنشطة الاقتصادية في أعمار يفترض بهم أن يكونوا ملتزمين بالتعليم..‏‏

ومن أسباب هذه الظاهرة الواقع الاقتصادي والاجتماعي وانخفاض مستوى التعليم ومستوى الوعي لدى الأسر بشكل رئيس ومن سلبيات عمل الأطفال من الناحية الاقتصادية في المستقبل سيصبح عاملاً غير مؤهل ولا يوجد لديه أي تأهيل للعمل الذي يمارسه ومع وجود التكنولوجيا الحديثة فإن إنتاجيته سوف تنخفض.‏‏

أما من السلبيات الاجتماعية فهو أن الطفل لن يعيش طفولته بشكل سليم ويقوم بدور غيره وبمهام لا تتناسب وعمره.. عدا عن حرمانه من حقه في التعلم والتربية ويمكن القول :إن الطفل في هذه الحالة يخرج من المهد الى العمل.. وهذا الأمر يترك بالغ الأثر السلبي في نفسيته وعلاقاته وتفكيره المستقبلي .. ومن المفترض وجود برنامج ضمان اجتماعي يعوض الأسرة عن فقدان معيلها .ومفهوم السوق الاجتماعي المطروح حالياً في سورية يجب أن يوفر ضمانات اجتماعية للأسر.‏‏

علم الاجتماع وعمالة الأطفال‏‏

الدكتور طلال مصطفى - قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق يقول: إن عمل الأطفال يؤثر سلباً على النمو الجسمي للطفل بما في ذلك البصر والسمع وهناك بعض الكدمات التي تؤثر على الجهاز التنفسي, ومن ناحية التطور المعرفي وبسبب تركه للمدرسة وتوجهه للعمل يفقد الطفل إمكانية التطور العلمي وتنخفض مقدرته على القراءة ,والحساب والابداع كما أن العمل يؤثر على التطور العاطفي لدى الطفل فنتيجة للعمل الذي يقوم به يفقد احترامه لذاته كمايفقد ذاته وشخصيته وتترك لديه عقد نفسية, كما يفقد الروابط الأسرية وتقبله للآخرين.. وقد يكون ذلك بسبب تعرضه للعنف أثناء العمل وبالتالي يعتبر هذا تربة خصبة لدخوله دائرة الجانحين.. فهو لم يعد قادراً على التمييز بين الصح والخطأ ويصبح ميالاً للكتمان ويصبح أقرب للعبد عند صاحب العمل.‏‏

أما الجانب الايجابي لعمالة الأطفال فهو يتجسد في الأعمال التطوعية وحتى المأجورة التي يقوم بها والمناسبة لقدراته العقلية والجسمية فلها آثار ايجابية على نموه العقلي والذهني وخاصة إذا حافظ على حقوقه الأساسية, فالعمل المبكر يعلمه المسؤولية والتعامل مع الآخرين وكذلك التسامح.. وهناك جهات يجب أن تلعب دوراً ايجابياً بحيث تكون عمالة الأطفال ايجابية وأهم هذه الجهات المدرسة, والمنظمات الشعبية (طلائع البعث -الشبيبة- الاتحاد النسائي) عن طريق تكثيف برامج التوعية حول عمالة الأطفال (سلبياتها وايجابياتها) وبعدها النفسي.. ولا بد من وسائل الإعلام أن تأخذ دوراً مهماً في التوعية لمخاطر هذه الظاهرة سواء عن طريق الندوات و المحاضرات أو عن طريق الدراما.‏‏

أما السيد أنس حبيب من جمعية تنظيم الأسرة السورية فيقول: إن العمل يضع أعباء ثقيلة على الطفل ويهدد سلامته وصحته ويستفاد من ضعف الطفل وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه ويستغل الأطفال كعمالة رخيصة بديلة عن عمل الكبار.‏‏

ولا يساهم العمل المبكر من الناحية السلبية في تنمية الطفل ويعيق تعليمه وتدريبه ويغير حياته ومستقبله. لقد أجبرت الظروف بعض الأطفال للتخلي عن طفولتهم سعياً وراء لقمة العيش ومارسوا أعمال الكبار بشروط السوق ومن أهم أسباب عمالة الأطفال المستوى الثقافي للأسرة والفقر وغياب المتابعة الجدية لظاهرة تسرب الأطفال من التعليم الأساسي ونقص المعرفة بقوانين عمالة الأطفال.‏‏

الاستراتيجية الوطنية ضرورة‏‏

للتقليل من ظاهرة انتشار عمالة الأطفال لابد من اعداد وتنفيذ خطة عمل وطنية للحد منها ويجب أن تستهدف في المقام الأول الحالات الملحة الشديدة الخطورة والتي فيها اساءة للطفل مع التأكيد أن الهدف النهائي هو الغاء عمالة الأطفال وايجاد نظام فعال بجميع البيانات المتعلقة بعملهم ومعالجتها وجعلتها في متناول يد المعنيين .. بالإضافة الى المراجعة الدورية للتشريعات والقوانين ذات الصلة.. وتطوير المعايير الخاصة بعمل الأطفال في ضوء الاتفاقيات الدولية (سن العمل, سن التعليم الإلزامي, الأجور, ساعات العمل وغيرها..)‏‏

واتباع سياسة صارمة في مراقبة هذه الأمور بحيث تضمن تعزيز كفاءة مفتشي العمل وبيئة العمل ووضع عقوبات صارمة ورادعة واشراك المجتمع بأسره في عملية المراقبة, إضافة الى تنشيط التوعية و التثقيف لمختلف فئات المجتمع وعبر مختلف الوسائل المتاحية ولا سيما وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء حول مخاطر عمل الأطفال وادراج مسألة تشغيلهم ضمن الاستراتيجية الشاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية حتى لا يبقى التخلف والفقر حجة, مع الاستفادة ما أمكن من تجارب الآخرين واعطاء النقابات والمنظمات الشعبية والرسمية بالمساهمة في وضع حد لهذه الظاهرة وتشديد الأحكام الجزائية لمعاقبة المخالفين.‏‏

ويستدعي التصدي لهذه المشكلة بذل المزيد من الجهود على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والقانوني والنفسي والتربوي والثقافي والإعلامي وذلك بالتوجه الى الجمهور المستهدف وهو (الأسرة - أصحاب العمل - الأطفال- أصحاب القرار- وغيرهم) من خلال لجان متخصصة في علم الاجتماع وعلم النفس والتربية وخبراء الإعلام لاجراء دراسات استطلاعية للتعريف بحجم هذه الظاهرة والقضاء التدريجي عليها وإن كان بلوغه يحتاج الى وقت طويل وكلنا أمل في أن تستمر الجهود للحد منها والقضاء عليها.‏‏

أخيراً :‏‏

اللافت للنظر أنه لا تكاد تنتهي ورشة أو ندوة حول ظاهرة عمالة الأطفال حتى يبدأ التحضير لغيرها.. ودائماً الخروج بتوصيات ونتائج وغيرها وكلها تبقى حبراً على الورق أوحبيسة الأدراج أو لنشرها في وسائل الإعلام لا أكثر ولا أقل من ذلك. حتى إن القرار الأخير والذي أصدرته السيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل رقم 1736 تاريخ 30/12/2004 لم يتم تطبيقه وتفعيله ولم يرالنور?!‏‏

إن ظاهرة عمالة الأطفال مشكلة خطيرة, تسعى العديد من البلدان الى الحد منها ومكافحة مختلف مظاهرها.. فهي تؤثر على المجتمع ككل وتؤدي الى تهديد مستقبله وتطوره وازدهاره بسبب فقدانه للثروة التي يملكها (الأطفال) والذين سيكونون في المستقبل القوة العاملة والبناة الذين يشكلون المجتمع الفتي.‏‏

إن سن التشريعات والقوانين من الأمور الأساسية والهامة لدعم وحماية الأطفال ولكن هذا الأمر وحده لايكفي .. علينا النظر جلياً بعملية التوازن بين الدخل والأسعار وتحسين المستوى المعيشي ومعالجة الفقر والأمية والجهل ومحاربة المفاهيم الخاطئة في المجتمع والتسرب المدرسي والأوضاع السكانية.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية