|
لكنها على أية حال تفصح عن الصخب الكامن تحت سطح حواره الهادىء, قالها بسرعة خاطفة: كم يبلغ ثمن السائق هنا? مستطرداً: نحن اليوم نكمل العشرين عاماً في عملنا, فكم يبلغ تعويضنا?
هذه العبارات جاءت في سياق حديث عن حقوق وتعويضات 36 عاملاً اشتغلوا في شركة شل لمدة عشر سنوات, ويطالبون بتعويضات تبلغ حوالى 6,5 ملايين دولار. وعموماً لا يتعلق الأمر بزلة لسان, وإنما بحقوق عمال أولاً وتجاوز للقانون ثانياً والتباس في علاقة السلطة القضائية بالتنفيذية ثالثاً وتشابكات في عمل السلطة القضائية رابعاً. عندما بدأ هؤلاء العمال العمل لدى شركة شل الهولندية بصفة سائقين أبرمت معهم هذه الأخيرة عقوداً لمدة عام, وسجلتهم في التأمينات الاجتماعية, وبعد انتهاء العام استمر هؤلاء العمال في عملهم بصفة سائقين, لكن بدل أن تبرم العقود بينهم وبين الشركة, أبرمت بينهم وبين الخبراء, وطبعاً في هذه الحالة أوقفت الشركة التزاماتها إزاء مؤسسة التأمينات الاجتماعية بشأنهم, وهكذا وجد هؤلاء العمال بعد عشر سنوات أنفسهم بلا حقوق ولا تعويضات, وقد استغنت الشركة عن خدماتهم. لنلاحظ هذه المفارقات غير المنطقية: تسلم شركة شل سياراتها لخبراء يعملون لديها,فيقوم الخبراء بالتعاقد مع سائقين لقيادتها, وتمنح الشركة هؤلاء السائقين رخص قيادة صادرة عنها بعد أن تجري لهم دورة تدريبية, وتسجل الشركة نفقات تلك السيارات وتستردها من الشركة السورية للنفط كنفط مكافىء. على أية حال, يحدد كتاب من مديرية التشريع والشؤون القانونية في إدارة الجمارك الآلية القانونية للتعامل مع سيارات الإدخال المؤقت باسم شخصية اعتبارية كما يلي: يحدد اسم المستفيد أو السائق بموجب موافقة مسبقة من الإدارة وبعد إبراز الوثائق التالية: 1- نسخة من العقد المبرم بين السائق والجهة مالكة السيارة يثبت إنه يعمل لديها بصفة سائق. 2- وثيقة تثبت تسجيله لدى مؤسسة التأمينات الاجتماعية. 3- صورة عن شهادة السوق العمومية. 4- وثيقة تثبت تسجيله في نقابة السائقين للنقل البري. هذا يعني أنه لا يجوز للخبراء التعاقد بصفتهم الشخصية مع سائقين لقيادة سيارات تابعة أو مملوكة لصالح جهة اعتبارية.
ربما يوجز كتاب موجه من المحامي العام الأول بدمشق إلى السيد وزير العدل جانباً مهماً من الإشكالية في جانبها القضائي, وجاء فيه: (تقدم العمال المذكورون بطلب إلى مدير فرع دمشق للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية لتسجيلهم في المؤسسة, وأصدر مديرها العام قراراً بتسجيلهم, لكن شركة شل طعنت بهذا القرار أمام محكمة القضاء الإداري طالبة وقف تنفيذه, فأصدرت محكمة القضاء الإداري قرارات برفض وقف التنفيذ ووضعت هذه القرارات موضع التنفيذ إلا أن السيد وزير النفط تقدم بشكوى إلى رئيس مجلس الوزراء بحق مدير فرع مؤسسة التأمينات الاجتماعية حيث قرر السيد رئيس مجلس الوزراء بحاشيته المسطرة على كتاب وزير النفط (توقف جميع الإجراءات الإدارية من قبلكم لحين الانتهاء و البت بالموضوع قضائياً وكل مخالفة تستوجب المساءلة 5/2/2002).
أقام العمال المذكورون خمساً وعشرين دعوى أمام محكمة صلح العمل رد بعضها والبعض الآخر لا يزال قيد النظر واستؤنف عدد منها ولا يزال أمام محاكم الاستئناف. الغريب أن محكمة صلح العمل فصلت بعض هذه الدعاوى بالرد لعدم ثبوت عمل العمال لدى شركة شل متجاهلة مدة العمل الطويلة للعمال بالشركة وحصولهم على هويات صادرة عن الشركة ولا سيما أن ادعاء الشركة بأن العمال المسرحين كانوا يعملون سائقين لدى خبراء بالشركة وليس لحساب الشركة وهذا ما أخذت به محكمة العمل. كيف لعامل أن يتعاقد مع خبير يعمل لمصلحة الشركة رغم أن السيارة المخصصة ليست ملكاً للخبير وإنما للشركة ولم تطلب المحكمة عقد عمل الخبير للتثبت فيما إذا كان هو المسؤول عن تنقلاته أم على حساب الشركة. إني أرى بأن العمال الثلاثة والثلاثين هم عمال في شركة شل ومتعاقدون معها وليس مع خبرائها ويوجد لهم نقابات بأسمائهم وانتخابات. ولذلك وحفاظاً على حقوق هؤلاء العمال وتعويضاتهم اقترح إحالة الشكوى إلى إدارة التفتيش القضائي للوقوف على سبب رد هذه الدعاوى. (انتهى كتاب المحامي العام الأول) والحقيقة لولا كتاب المحامي العام الأول وقرارات محكمة القضاء الإداري وتقرير الخبرة, ما كنا لننشر هنا ما تحدث به العمال عما جرى في محكمة العمل. يقولون: كان القاضي قد أقر مراراً بأحقية العمال في التعويضات.. ومع ذلك أصدر قراراً معاكساً بعد أن رفض شهادة العامل غسان دباني وهدد بوضعه في السجن, ثم ألغى شهادته لأنه لم يتكلم كما يريد (أي كما يريد القاضي) ويضيف العمال: جاء في قرار القاضي أن العمال هم خدم منازل, وعندما راجعوا محامين قيل لهم إنه ليس هناك في القانون شيء ينص على أنهم خدم منازل. على أي حال, بادر العمال إلى استئناف القرار وحتى الآن لم تبت محكمة الاستئناف فيه رغم مضي قرابة الخمس سنوات, فتقدموا بشكوى إلى السيد وزير العدل وجاء رد المحامي العام الأول بدمشق لصالحهم وأحيل القرار (قرار محكمة صلح العمل) إلى التفتيش القضائي. ويؤكد العمال أن محامي شركة شل اجتمع معهم وأقر بحقوقهم إلا أن السيد حسن اليازجي عارضه مشيراً إلى أن رئيس الحكومة (رئيس الحكومة السابق) بيده يحركه كما يشاء والطريف أيضاً أن هناك أجانب نصحوهم برفع دعوى على الشركة في الخارج ومطالبتها بحقوقهم, ما داموا لايستطيعون الحصول عليها هنا. اللافت للانتباه هنا أنه بعد صدور حكم مكتسب للدرجة القطعية لصالح مؤسسة التأمينات الاجتماعية ولصالح العمال من محكمة القضاء الإداري, سطر السيد رئيس الحكومة السابق حاشيته إلى مدير عام مؤسسة التأمينات ومدير فرعها بدمشق لوقف جميع الإجراءات الإدارية إلى حين الانتهاء و البت بالموضوع قضائياً وكل مخالفة ستتوجب المساءلة, وهكذا أوقف د. خلف العبد الله كل الإجراءات مع أنه يؤكد على أن العمال مظلومون وأنهم محقون في مطالبهم وأن شركة شل تجاوزت قانون العمل المتعلق بالقطاع الخاص. وجاء في دعوى شركة شل إن هناك عشرين شخصاً اقتحموا مبنى فرعياً لها في حي الروضة بدمشق أعقبهم مفتشان من التأمينات الاجتماعية وقاما بتسجيل أسماء هؤلاء العمال على أنهم يعملون لدى الشركة التي تحفظت على هذا الإجراء رغم إن هؤلاء كانوا تقدموا بدعوى عمالية فردية أمام محكمة صلح العمل بدمشق طلبوا فيها تثبيتهم.. ورد تقرير مفوض الدولة بالرأي القانوني أن جوهر الخلاف في هذه القضية يدور حول مدى صحة وجود رابطة عمل فعلية بين الأشخاص موضوع القرار المشكو فيه والشركة المدعية, وحيث إن أوراق القضية كشفت أن بعض أفراد الجهة المتداخلة (العمال) يعملون لدى الجهة المدعية بصفة سائقين وقد منحت كل واحد منهم رخصة قيادة خاصة ممهورة بخاتم الشركة وتوقيع مديرها العام أصولاً تخولهم قيادة سيارات شركة شل سورية وذلك لمدة محددة بسنتين إحداها مثلاً تاريخ الإصدار 7/7/99 وتاريخ الانتهاء في 6/ 7/ 2001 فضلاً عن وجود اشتراك لهم لدى نقابة عمال النفط في سورية, ما يعني وجود رابطة عمل فعلية بين الشركة المدعية كصاحب عمل والأشخاص المذكورين موضوع القرار المشكو منه كعمال تحت سلطته وإشرافه والرابطة تلك تخول الشركة قانون استعمال حق الرقابة والإشراف وسلطة توقيع الجزاءات المسلكية بحق المذكورين وكل ذلك مقابل قيامها بالالتزامات المتوجبة عليها من منحهم الرواتب والأجور والتعويضات والاشتراك عنهم تأمينياً, مما لا مناص معه من الاشتراك عنهم وفقاً لأحكام قانون التأمينات الاجتماعية الملمح إليه بحسبان إن عملهم لدى الجهة المدعية كسائقين على سياراتها ليس عملاً عرضياً مؤقتاً وإنما يعتبر عملاً دائماً بطبيعته إذ إن قيادة آليات الشركة يعتبر العصب الحساس في تحقيق الخطط المتبعة لديها في إنتاج النفط. نعود هنا إلى حوارنا مع السيد غالب سليمان مدير العلاقات العامة في شركة شل, فقد أكد في إطار حديثه عن تسجيل العمال في التأمينات بأنه يمكن في سورية شراء ذمة بعض الموظفين وعاد ودعانا إلى أن نترك هذا الأمر للقضاء السوري, وبعدها تمنى أن ينتصر العمال على الشركة إن كانوا على حق, وأخيراً تبرع من أجل الدفاع عن حقوقهم إن كانت لهم حقوق.. !!1 وبالطبع فإن السيد سليمان كان صائباً في كل ما قاله رغم التعارضات والتناقضات بين العبارات.. فعندما تدخلت التأمينات لتسجيل العمال (يمكن شراء ذمة موظف ما في سورية) وعندما رد القاضي دعاوى العمال (لندع القضاء يأخذ مجراه) وعندما أصدر القضاء الإداري قراره (لجؤوا إلى رئيس الحكومة السابق وعادوا إلى ذمة الموظفين). لكننا لا نعلم متى وكيف سيتبرعون للدفاع عن حقوق العمال. ربما من المفيد الاستشهاد أيضاً بتقرير خبرة موجهة إلى قاضي محكمة صلح العمل بدمشق الثانية, ولا أدري تحت أي عنوان ستضعه شركة شل, وجاء فيه إنه لما كان المدعي أحد العمال سبق أن عمل لدى الجهة المدعى عليها بصفة سائق حتى انتهاء مدة عقده المحدودة المدة, ثم عمل مع الخبراء المتعاقدين مع الشركة المدعى عليها بصفة سائق أيضاً, على سيارات الشركة المدعى عليها والموضوعة تحت تصرف الخبراء وإعطائهم رخصة منها بقيادتها وحيث أن الخبراء هم من المتعاقدين مع الشركة المدعى عليها وأن الرواتب التي يتقاضاها السائقون من الخبراء قد أخذت بعين الاعتبار في تعاقدهم مع الشركة, لذلك أرى أحقية المدعي في تثبيته بعمله لدى الجهة المدعى عليها بالراتب الذي يتقاضاه من الخبراء ومن بدء عمله لديهم مع استفادته من كامل المزايا التي يستفيد منها أمثاله لدى الشركة من تاريخ تثبيته وهذه خبرتي. عموماً ما يهم في قضية هؤلاء العمال, هودور شبكة الحماية الاجتماعية وعمادها مؤسسة التأمينات الاجتماعية في الدفاع عن حقوقهم, لاسيما في ظروف تفعيل دور القطاع الخاص.. وهنا تتضح إمكانات هذا الأخير في تداخلاته مع السلطة التنفيذية بتجاوز القوانين والأنظمة التي تضمن حقوق الأطراف المشاركة في سوق العمل.. ولعل الأهم في هذه القضية هو أن أحد أطرافها شركة أجنبية يستحيل عليها في بلدها أو بلدانها أن تقوم بمثل هذه الممارسات, لأنها تدفع ثمنها غالياً, بينما تعتقد عندنا أنها تمتلك السلطة التنفيذية وتمتلك القضاء.. والأدهى أن بعض العاملين فيها في مواقع مختلفة يجاهرون بذلك صراحة وعلناً. لقطات أكد مستشار وزير الدولة غياث جرعتلي أحقية العمال بمطالبهم ولكن -كما قال- ليس باليد حيلة.. أحد موظفي شل, وهو الآن مدير لإحدى الشركات الأجنبية, سبق أن هدد أحد السائقين بالقتل عن طريق المافيا الروسية متذرعاً أن الحكومة بيده وهناك ضبط شرطة ودعوى قضائية بهذا الشأن, لكن سقطت بالعفو.. رد مدير العلاقات العامة في الشركة أن موضوع التهديد بالقتل هو مجرد ابتزاز. وجهت مؤسسة التأمينات الاجتماعية إنذاراً إلى الشركة عام 2000 تطالبها فيه بدفع مبلغ 6367879 ل.س كاشتراك عن هؤلاء العمال. |
|