تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كولونيالية متحضرة

آراء
الأربعاء 15/2/2006م
عدنان سليمان

في الخبر, أن جنوداً بريطانيين تم تصويرهم, وهم يقومون بضرب صبية عراقيين

في إحدى الثكنات العسكرية, مستخدمين الهراوات.‏

وفي خبر آخر, لكنه سابق, أن مجموعة من الجنود الأميركان, تم تصويرهم وهم يمارسون أعمال التعذيب الوحشية, بحق جنود ومعتقلين عراقيين في سجن (غوانتانامو), بما فيهم تجريدهم من الثياب, والتبول عليهم بشكل جماعي, وجرهم كما الكلاب. هذا الخبر تم تصويره من قبل الجنود الأميركان أنفسهم, حيث استنفرت الديمقراطية الأميركية, وشكلت لجنة تحقيق عسكرية, الأمر الذي أفضى, إلى تسريح جندي أو أكثر من الخدمة, أو سجنهم عدة سنوات.‏

في الخبر الأول, جندي بريطاني يقوم بتصوير الفيلم, ويسربه الى الصحافة, وعلى الفور تستنفر الديمقراطية البريطانية, وتشكل لجنة عسكرية للتحقيق, الأمر الذي سيترتب عليه, تسريح جندي أو أكثر من الخدمة, أو سجنهم لعدة سنوات. هنا ينتهي الأمر, جنود أميركان يمارسون أفعالا بحق المعتقلين, مخالفة للأنظمة والقوانين الدولية, الصحافة الحرة, تتدخل وتمارس دورها بحرية, الديمقراطية الأميركية تحاسب الخارجين على القانون, وتطبق بحقهم أقسى العقوبات. وفي الحالة البريطانية, يتكرر الأمر ذاته. في النتيجة: انحراف ديمقراطي عن الممارسة, فتعيد الديمقراطية تصحيح نفسها ديمقراطيا, وينتهي الأمر.‏

الدرس من ذلك: صحيح أن الأفعال كانت وحشية وبربرية, ولكن استعمارا كهذا -أميركي أو بريطاني- يحمل رسالة حرية وديمقراطية لمستعمريه, إذ يطبق القانون على الخارجين عن رسالته الحضارية, حتى ولو كانوا جنوده!.‏

نتيجة أخرى: (يبتسم بوش ورايس وتشيني ورامسفيلد وتوني بلير), وكل الجنرالات وهم يلمعون احذيتهم العسكرية فوق التراب العراقي, أن رسالتهم في العراق, هي مساعدة الشعب العراقي, لاستعادة حريته وسيادته وتنظيم دولته. يبتسم الكثير من العرب أصحاب الشأن السياسي, المتابعين للهم العراقي, من أن الديمقراطية الأميركية, أو الانكليزية لا تستثني أحداً, حين يخرج عليها أو يعاندها. وينتهي الأمر هناك في أميركا أو بريطانيا, وهنا على الأرض العربية. بضعة أصوات انتخابية للحزب الجمهوري أو الديمقراطي, أو حزب العمال, ونسب أعلى في استطلاعات الرأي هناك. وينتهي الأمر, تمارس الديمقراطية الغربية, أبشع الجرائم الإنسانية بحق البشر هنا, وبأساليب بدائية تعود للقرون الوسطى, لكنها تنتصر في النهاية. وتصبح مثقلة بالكثير من الديمقراطية. ينتهي الأمر هناك, وهنا. لكنه لا ينتهي عندي, فثمة بضعة خلايا ناشطة في ذاكرتي, تأبى كل أشكال الترويض والتنويم والاستباحة والمقايضة والمهادنة, رغم كل أنواع المهدئات الإعلامية والديمقراطية, وأدوية الاكتئاب والهلوسة, وفقدان الذاكرة, ثمة جزء في ذاكرتي لا تنتهي عنده الأمور, وكأن الأمر ينطوي على استفزاز أو تحدّ عقلي, ذلك أن (مارك سبنسر) هو بريطاني أيضا, عالم اجتماع, وكان قد أفضى في نهاية القرن التاسع عشر, وبداية القرن العشرين عن رسالة الاستعمار البريطاني بالقول: أن الأمة الانكليزية تحمل عبء الإنسان الأبيض, ورسالته التحضيرية للشعوب المتخلفة, ولذلك يحق لها أن تستعمر من تشاء من الشعوب. مارك سبنسر وروبرت تيد وآخرون كثيرون, في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا, يعيدون إنتاج (النظرية الداروينية) باعتبارها (داروينية اجتماعية, والبقاء فيها للأقوى وليس للأصح, والمجتمع الأميركي أو البريطاني, مجتمع رفاه, وتحديث وقيمه العليا تشكل رسالة للإنسانية, تحمل توقيع الآباء المؤسسين للأمة الأميركية والبريطانية, ونماذج التبشير الكولونيالي, وحتى لو حملت توقيع منظمة (كوكس كلان) في إبادة السود, أو ابادة الهنود الحمر, فالتبشير بدأ محميات, وإرساليات وثقافية دينية, ثم جزر منعزلة, ثم مناطق ومدن حرة, ثم مستعمرات بالكامل, رسالة التحضير للشعوب المتخلفة هناك, في أفريقيا وأمريكا اللاتينية, أنتجت سوق العبيد للصناعة الغربية, ونهب الذهب والفضة, مئتان أو ثلاثمائة عام, الكولونيالية هي ذاتها, النهب ذاته والرسالة ذاتها, (الديمقراطية وتحرير الشعوب من الاستغلال).‏

(الداروينية الاجتماعية) ذاتها, وليدة عصر القوة والنظريات العرقية الحيوية, واحتضانها من الفكر القومي المتعصب (هتلر أو موسوليني), الاصطفاء فيها للقوة, ذهب وفضة وعبيد, هناك, وهنا النفط, الرسالة ذاتها, الامبرالية ذاتها, والأفعال ذاتها, تحمل عنصرا طبيعيا لشر عنتها, ويحق للمستعمر وهو ينشر رسالته.. أن يغتصب ويذل ويجرم ويدنس ويقتل ويبيد ويقايض ويتاجر بالأرض والإنسان, أفعال متفق عليها مسبقا, مسموح بها مسبقا, كامنة في الوعي والممارسة, فهذا الأبيض متفوق حضاريا وديمقراطيا, وهذه الشعوب والأفراد والصبية الصغار, الذي ينبغي ترويضهم بالهراوات والعصي, ليسوا أكثر من شعوب بدائية متخلفة, والأفعال هذه تمارس عليهم, صحيح, أنها تحمل رسالة تمدينية, لكنها في النهاية, إذلال الروح والنفس والكرامة, وهذه الرؤوس التي لا تزال ترتفع هنا, أو قد ترتفع لاصطياد نجمة أو قمر, مهددة على الدوام, ورسل الحضارة الغربية, هم ذاتهم, في العراق أو لبنان, وقبل مئات السنين, في أفريقيا وأميركا اللاتينية, أو الشرق الأوسط, وحيثما ينبغي للذهب والفضة والنفط أن يتواجد, فالديمقراطية الغربية حاضرة بالهراوات أو غيرها, دبابات وصواريخ أو غيرها, ديمقراطية كولونيالية, لكن التاريخ, لن يسجل كل هذا الغضب, لأنه لم يعد تاريخاً إنسانيا.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية