تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نظريات فلسفية في المساواة والسلام والديمقراطية

ملحق ثقافي
2017/11/14
حاتم حميد محسن

ولد أرسطو (ابن الطبيب) في مدينة ستاجيرا بمقدونيا سنة 384 قبل الميلاد، ونال تعليمه في أكاديمية أفلاطون. وعندما توفي أستاذه أفلاطون عام 347 قبل الميلاد، عاد المقدوني إلى بلده وأصبح مدرساً للإسكندر ابن الملك فيليب ملك مقدونيا.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

كان تلميذه الذي اكتسب لاحقاً لقب «الأكبر» محباً لأستاذه أرسطو، ونُسب إليه القول: «أنا مدين لأبي في الحياة، لكني مدين لأستاذي في الحياة الجيدة».‏

بقي أرسطو مع الإسكندر حتى عام 335 قبل الميلاد، حينما أسس أكاديمية خاصة به هي أكاديمية Lyceum في أثينا. مكث في أثينا حتى عام 323 ق.م حيث أجبرته المشاعر المعادية لمقدونيا على الرحيل. «أنا لا أسمح للأثينيين ارتكاب الإثم مرتين ضد الفلسفة» مشيراً بذلك إلى إعدام سقراط، بعدها هرب أرسطو إلى جزيرة chaicis ثم مات بعد سنة في عام 322 ق.م‏

إن قراءة أرسطو أسهل مما يتصورها البعض، حتى أولئك غير القادرين على قراءته باليونانية الأصلية سيغمرهم الحماس ويكونون أكثر انجذاباً إليه. الشيء الملفت حول سياسة أرسطو، هو الطريقة التي حمل بها هذا الرجل معرفته الواسعة إلى محاضراته. كان أرسطو يجذب انتباه مشاهديه بالقصص الممتعة. لم تصل إلينا أي رسائل خاصة بأرسطو، بل كل ما تبقى له هو محاضراته التي كان يلقيها على طلابه.‏

أرسطو والسياسة التقدمية‏

الشيء الأكثر أهمية في فلسفة أرسطو السياسية، هو المدى الذي بلغته تلك الفلسفة من حداثة وتقدمية. دراساته تتحدث عبر العصور وتستطيع إلهام الناس بعد أكثر من 2200 عام.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لم يكن أرسطو مجرد فيلسوف كتب عن المؤسسات والدساتير المثالية آنذاك، وإنما تنبّأ بها كما تبدو في صورتها اليوم. معظم القضايا التي عالجها أرسطو هي قضايا تهمنا حالياً: الإرهاب، اللامساواة، أخطار الجشع المفرط للطبقة الصغيرة الثرية، كما أن الحلول والتحليلات التي عرضها كانت ملائمة لزماننا. من المدهش كيف أن علم أرسطو بالحكومة كان مرتكزاً على مُثل جرى التعبير عنها من جانب نشطاء اليسار في الغرب اليوم. فمثلاً، الرجل الذي علّم الملك لم يكن صديقاً للقوي والثري، وإنما كان مؤسساً لعلم سياسي أعلن فيه بجرأة أن «رجل الدولة الديمقراطي الحقيقي يجب أن يدرس الكيفية التي يتم بها حماية الناس العاديين من الفقر الشديد»(السياسة، 132a). ذلك جعله طموحاً لليسار الحديث الذي وضع المساواة والعدالة الاجتماعية في قلب الصراع السياسي.‏

كان أرسطو ديمقراطياً اجتماعياً قبل ألفي سنة من تأسيس هذه العقيدة الاقتصادية. هو أصر بأن «المعايير يجب أن توضع بطريقة تؤدي إلى تقدم دائم للجميع»، وكما في سياسيي يسار الوسط اليوم. وهو كان يرغب بإعادة توزيع الثروة على أساس أن هذا سيكون أفضل للدولة والأمة ككل. وقد أوضح أيضاً كيف يتم هذا: «الطريق الأنسب - كما كتب هو- «أن تُجمع كل العائدات النقدية في صندوق وتقوم الدولة بتوزيعه دفعة واحدة». في الحقيقة اقترح كيف أن المحتاجين يجب «أن يُجهزوا برأس مال ليبدأوا الأعمال» (132a).‏

هذه الأفكار ليست بعيدة عن متبنيات الاتجاه الديمقراطي الاجتماعي والليبرالي اليوم. وكما في التقدميين من يسار الوسط اليوم هو كان مقتنعاً بقوة بأن إعادة التوزيع وتدخّل الدولة لا ينفع فقط الفقراء وإنما هو «مفيد للأثرياء أيضاً». لم يكن أرسطو معارضاً للأعمال، بل كان واضحاً بالقول «إن النقود تأتي للوجود بهدف التبادل، وليست غاية في ذاتها». لقد ميز بين oikonomia «فن إدارة المنزل» و kremastike» فن الثراء». انعكست شكوكه حول المصلحة الذاتية المفرطة في وصفاته السياسية: «أول الخدمات الضرورية للدولة التي لا غنى عنها هي رعاية أو حراسة السوق»، هو يشير هنا إلى أخطار تقليص سلطات الدولة.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لا حاجة للمرء قراءة كتاب توماس بكتي (رأس المال في القرن الواحد والعشرين) أو قراءة عمود كروغمان في ذي نيويورك تايمز إذا كان بإمكانه قراءة السياسة politika لأرسطو. أرسطو يجب أن يكون ملهماً ليسار الوسط اليوم لأنه أقام تفكيره السياسي على أساس متين من الأخلاق والخوف على أصحاب الموارد القليلة. في الحقيقة، هذا الأساس الفلسفي جعل أرسطو متفوقاً على العديد من مفكري الحاضر. اليوم يلجأ السياسيون إلى المنفعة والمصلحة الذاتية. بالنسبة إلى أرسطو كان عكس ذلك، «البحث عن المنفعة في كل مكان لا يتناسب مع الإنسان الحر» (1338ب).‏

بدلاً من ذلك، يجب على علم السياسة أن يرتكز على الاعتراف بأن «الحياة الجيدة هي الهدف الرئيسي للمجتمع»(1278ب). ولذلك كتب أرسطو بأن «مهمة صانع القوانين هي خلق المجتمع الجيد». وكان أرسطو قد أشار إلى أن السياسة هي امتداد للأخلاق «التشريعات هي ما يجب أن نقوم به وما يجب الامتناع عنه، إن غاية علم السياسة يجب أن تكون الخير للإنسان». وبكلمة أخرى، نحن لدينا سياسة، ونحن نعلّم الفلسفة السياسية، لأننا نريد خلق السعادة الحقيقية أو eudaimonia لتحقيق الحالة التي تكون فيها «أفعالنا منسجمة مع الفضيلة ومع توفير كامل الحاجيات في حياة تامة» (Nicomachean Ethics,1101a).‏

السياسة ليست فقط حول المصلحة الذاتية وزيادة القوة والسمعة، إنها حول الاعتراف بأن «الدولة هي من حيث الجوهر جالية». وفي كلام واضح «الدولة ليست مجرد المشاركة في محلية عامة بهدف منع الأضرار المتبادلة وتحقيق تبادل السلع». يعترف أرسطو أن أنظمة التبادل والمسائل المالية «هي شروط مسبقة ضرورية لوجود الدولة. لكن حتى لو توفرت كل هذه الشروط، فهي لن تصنع الدولة. لأن الدولة هي شراكة من العائلات والجماعات يعيشون جيداً وهدفها حياة تامة مستقلة».(1280ب).‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أرسطو والعنف السياسي‏

بالطبع، ليست كل أفكار أرسطو ناجحة دائماً، آراؤه حول العبودية والمرأة هي بالذات مثيرة للجدل. لكن هذا لا يعني أننا نضع فلسفته جانباً. فمعظم الداروينيين المحدثين الجدد لا يوافقون مع أجزاء من أصل الأنواع.‏

وللغرابة أن أكثر فلاسفة السياسة البارزين كانوا ذوي بُعد واحد أو بُعدين. توماس هوبز ركز خصيصاً على السلام والأمن، جون لوك كان مهتماً بالملكية والحرية. كارل ماركس ركز تفكيره على مهاجمة النظام الاقتصادي غير العادل. وفي المقابل، أرسطو، كان حتى أكثر من أفلاطون، مفكراً سياسياً عالج جميع القضايا الكبرى: التعليم، العدالة، الديمقراطية، المساواة، الحرب، السلام، الاضطراب الاجتماعي.‏

اعترف أرسطو بأن فقدان النفوذ السياسي يخلق الغضب والتمرد والعنف. وقد أثار أرسطو السؤال البليغ «كيف بإمكان الأفراد الذين لا يشتركون في الحكومة أن يكونوا طيبين تجاه الدستور؟»(1268ب).‏

بالطبع الجواب بالنفي. لذا، كان أرسطو مؤمناً أساساً أن الناس المُهمشين المُستبعدين من النفوذ السياسي يلجأون بالنهاية إلى العنف. ميكافيلي (1470- 1527) لاحقاً كان صدى لأرسطو حين أكّد «من الضروري أن تكون لدى الجمهورية قوانين تمكّن الجماهير من التنفيس عن الغضب الذي تشعر به». لأنه عندما لا توجد مثل هذه الآلية، «فإن طرقاً قانونية إضافية سوف تُستخدم وهذه بدون شك ستكون لها نتائج أكثر سوءاً»(Discoursi, 1531,p.102).‏

لكي تتم المحافظة على النظام السياسي السلمي، يعتقد أرسطو أنه من الضروري إشراك جميع المواطنين، لأن سبب استمرار النظام هو، لأن أولئك الذين في الحكم «يعاملون من هم خارج المؤسسات بشكل جيد» وهم يقومون بذلك «عبر جلب قادتهم إلى المؤسسات»(1308a). ربما يبدو هذا مثالياً وسطحياً.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

إن منطق المفكر القديم كان واضحاً: المزيد من المشاركة الديمقراطية تقود إلى القليل من اللامساواة وأدنى مستوى من العنف. من الصعب التقليل من القيمة التقدمية لهذه الرؤية خاصة عند مقارنتها مع السياسات العامة اليوم. عظمة أرسطو تأتي من اعترافه بأن مشاركة المواطن ومنحه النفوذ السياسي هو الذي يمنع الانقسام السياسي. وذلك مؤشر على اتجاه أرسطو التجريبي واعتماده على البرهان في ادّعاء الحقائق الواقعية.‏

أرسطو والديمقراطية الدستورية‏

كان أرسطو تجريبياً دائماً، جمع كل شيء بدءاً من العينات الحيوانية وحتى الحقائق السياسية: هو كتب تعليقات على ما يقارب 170 دستوراً قديماً. لسوء الحظ بقي فقط واحد من هذه الدساتير وهو دستور أثينا الذي اكتُشف في الأقصر في أعالي مصر عام 1879.‏

من غير المدهش أن نجد أرسطو المتحمس لمعرفة الحقائق وضع برهانه الرئيسي للتأثير النافع لما سماه «الطبيعة الديمقراطية» مستنداً في ذلك على دراساته التجريبية وبالذات التحليلات المقارنة لدولة قرطاج الديمقراطية. كتب أرسطو بأن البرهان على أن «دستورها منظم جيداً هو أن جماهيرها يرغبون بالبقاء مخلصين للنظام السياسي ولم يحصل فيها بأي مقدار لا انقسام أهلي ولا استبداد»(1272ب). نجاح قرطاج في تجنب الثورات كان ناتجاً حسب قوله من دستورها المتوازن الذي اختير فيه برلمانها المؤلف من 104 أعضاء «من كل الطبقات» و»حسب الجدارة». كذلك، في هذا النظام الديمقراطي الملفت جرت موازنة النواب المنتخبين بـ «الكبار» الذين يختارهم الشعب، وبرئيس الحكومة باعتباره أعلى سلطة منتخبة»(1272ب).‏

ومع أن أرسطو حذّر من أن يتحول الحكم بالشعب إلى حكم الغوغاء، هو ذكر دائماً «أنه من مصلحة النظام الديمقراطي لجميع المواطنين أن ينتخبوا القضاة واستدعائهم للمساءلة». في الحقيقة، هو تحدث عن «موافقة المحكوم»(1318ب) وهو الخط الفكري الذي استنسخه لاحقاً توماس جيفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي.‏

نموذج أرسطو في الدستور كان قد اتّسم بالأرستقراطية المنتخبة لكنها ارستقراطية مرتكزة على التعقل غير العادي والذكاء وليس على الثروة. ولكن حتى في ظل هذا النظام من الحكومة، يبقى للناس الكثير من القول قياساً بمعظم الأنظمة ذات الديمقراطية غير المباشرة: في الدولة المثالية لأرسطو «عندما يعرض الملوك مشروعاً أمام الجمعية العامة، فهم لا يجعلون الناس مجرد جالسين ومستمعين للقرارات التي اُتخذت سلفاً من جانب حكامهم، وإنما يمتلك الناس قرارات سيادية»(1278a).‏

لماذا يضع أرسطو بممارسته الذكية هذه كل الإيمان في الناس العاديين؟ لماذا يثق أرسطو بهم في عمل القرارات الجيدة؟ هو اعترف بأن بعض الناس أكثر ذكاء من غيرهم، ولكن اعترف أيضاً أن العديد من الأفراد الذي يتشاورون مع بعضهم ستكون لديهم معرفة جمعية أكبر مما لدى أكثر الناس حكمة. لتوضيح ذلك نقتبس منه التالي:‏

«حينما يأتي عدد من الناس مجتمعين سيكون ذلك أفضل ليس انفرادياً وإنما جمعياً، تماماً كما في وجبة العشاء العامة التي يساهم فيها الكثير من الناس تكون أفضل من العشاء الذي يأتي على حساب وكلفة شخص واحد. حينما يكون هناك عدة أفراد، فإن كل فرد سيكون لديه جزء من الفضيلة والحكمة، وعندما يأتون مجتمعين، تماماً مثلما يصبح حشد من الناس بهيئة رجل واحد بعدة أقدام وعدة أحاسيس، كذلك يصبح أيضاً شخصية واحدة فيما يتعلق بالأخلاق والملكات الفكرية»(1281ب).‏

ومن هنا هو استنتج «سبب أفضلية الجمهور العام في الحكم»، لأن «مختلف الناس يمكنهم الحكم على جزء مختلف». ولهذا السبب «من الضروري للجميع أن يشاركوا في الحكم وفي كونهم محكومين»(1332ب).‏

من الصعب أن نجد حالة دقيقة وموجزة للديمقراطية أكثر من الصيغة الأرسطية. نفس الاتجاه عبّر عنه العالم الايطالي marsilius of padua (1275-1343).»القوانين التي كُتبت للإيطاليين عام 1324»يجب أن توضع أمام هيئة من المواطنين لغرض الموافقة أو الرفض.. لأن المواطن الأقل تعليماً يستطيع أحياناً تصوّر شيء ما يجب تصحيحه بشأن القوانين المقترحة حتى عندما لا يعرف أساساً كيفية اكتشاف القانون» (المدافع عن السلام، ص 80). لكننا يجب أن نتذكر أن هذا المفكر ، ومثله ميكافيلي، جاءا قريبين جداً من تعاليم أرسطو وسارا على خطى كتاباته. كلا الرجلين تعلما من الأستاذ المقدوني وهو ما يجب أن نتعلمهُ نحن اليوم.‏

خاطب أرسطو الناس عبر العصور، كتاباته كانت برهاناً بأن فلسفة الأساتذة القدماء ليست مجرد أثر تاريخي وإنما هي مرشد غير مقيد بزمان. أرسطو الديمقراطي والمدافع عن العدالة الاجتماعية، والمعارض للدولة السلطوية يجب أن يكون في أول قائمة القراءات لكل من يساند التقدمية والثورية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية