|
ملحق ثقافي
ولقد كانت بواعث توظيف الأسطورة عند السيّاب عديدة أهمها البواعث الفنيّة والثقافيّة والنفسيّة والوجدانية. وقد أجاب ذات يوم عن تساؤل البعض حول لجوئه إلى الأسطورة والرمز، فقال: «هناك مظهرٌ مهم من مظاهر الشعر الحديث: هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة، إلى الرموز. ولم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى الأسطورة أمس مما هي اليوم. فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لاشعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح. وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها، أن يحوّلها إلى جزء من نفسه، تتحطم واحداً فواحداً، أو تنسحب إلى هامش الحياة. إذاً فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعراً، فماذا يفعل الشاعر إذاً؟ عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها، لأنها ليست جزءاً من هذا العالم. عاد إليها ليستعملها رموزاً، وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد، كما أنه راح من جهة أخرى، يخلق أساطير جديدة، وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن». ولقد تمكّن السيّاب في قصائد كثيرة أن يتعامل مع الأسطورة كأداة تعبيرية، فعبّر بها، متجاوزاً الوقوع في إسارها والتعبير عنها. لكن هذا لا يعني أنّه وفِّق دوماً إلى ذلك، فقد أكثرَ أحياناً من الرموز الأسطورية في نص ٍ واحد ٍولم يترك لكلٍ منها فضاءَه الحيوي ليتحرك فيه. ولجأ إلى بعض الأساطير الغريبةِ عن وجدان شعبِهِ، والمجهولة من قبل حتى مثقفيه، ممّا اضطّرهُ إلى إفراد هوامش لشرحِ تلك الأساطير، كما أحسسنا في بعضِ نصوصهِ أن الأسطورة لم تؤدِ غايتها الفنيّة، وأصبحت عالة على النص، وبقيت عموماً صورةً ألصقت لصقاً عليه من الخارج.
وحتى يكون كلامنا أكثر دقّة، لابأس من الوقوف على قصائد «منزل الأقنان» التي تنتمي إلى المرحلة الأخيرة في حياة الشاعر، وقد كتبها خلال فترةٍ قصيرةٍ وكانَ في بعض الأيامِ يكتبُ نصين. لكنَّ ما ميّز هذهِ المجموعة هو نجاحُ صاحبها في استدعاء الشخصياتِ الأسطوريّة والتراثيّة عموماً، واختار منها ما هو أقربُ إلى روحِهِ ووجدانه، وما هو أقدر على التعبير عن الحال التي يعيشها الشاعر، والتي يريد للشخصيّة أن تعبّر عنها وتنهض بمراميها وغاياتها. وجاء كل ذلك بصورةٍ عفويّةٍ بسيطة لا افتعال فيها ولا تكلّف ولا استعراضاً ثقافياً؛ وكيف للشاعر أن يفكرَّ بذلك وهو قابَ قوسينِ أو أدنى من الموت. الشخصية الأسطوريّةُ الأولى التي استدعاها السيّاب في مجموعتِهِ المذكورة وتقنّعُ بها بصورةٍ ناجحةٍ هي «السندباد»، وهي كما نعلم قادمة من الموروث الحكائي الثقافي العربي؛ وكان ذلك حين رأى نفسه يشبهُ تماماً هذهِ الشخصيّة في ترحالها، فقد قذفت بِهِ الرياح إلى بيروت، ولكن علاجه هناك لم يكن مجدياً، فإذا بهِ يسافِر إلى لندن ودَرَمُ ثم إلى باريس. وكان تقمصّ هذهِ الشخصيّة يشي أيضاً بأملٍ، واضح تارةً وأخرى خفي بأن الشاعِر سيعودُ من ترحالهِ سالماً مُعافى؛ وحينَ أحس الشاعر الذكي الموهوب أن شخصية السندباد غير كافية من خلالِ صفاتِها في سياقِ الحكاية، بدأ الشاعرُ يكسوها بصفاتِ أوليس ملك إيثاكة، أحد قادة الإغريق في حربهم على طروادة، الذي تاهَ في البحار في رحلةِ العودة مع عددٍ من محاربيه وتقاذفتهم الأمواجُ؛ تُلقي بهم على هذا الشاطئ أو ذاك، وعلى هذهِ الجزيرة أو تلك عشر سنوات. وقد صوّر هوميروس ذلك أجملَ تصوير في رائعتِهِ الشهيرة «الأوديسّة»، وركزّ كثيراً على شخصيّة البطل الثاني لهذهِ الأسطورة؛ «بنلوب» زوج أوليس، التي انتظرته كل تلك المدّة واثقة من عودتِهِ سالماً وممتلئةً حباً وشوقاً إليه. والحقيقة أن هذهِ الشخصيّة هي التي دفعت السيّاب لمزج شخصيّتي سندباد وأوليس معاً، فنحن في حكايةِ الأوّل لا نتذكرّ وجود زوج تنتظر وتترقب وتتألم وتخاف، في حين أن الأوديسة تقوم على ذلك أساساً. وعليه لنقرأ شيئاً من القصيدة الأولى وهي بعنوان «رَحَلَ النهار»: «رحلَ النهار ها إنه انطفأت ذبالتهُ على أفقٍ توهَّج دونَ نار وجلستِ تنتظرين عودة سندباد من السِّفار والبحرُ يصرخ من ورائك بالعواصفِ والرعود. هو لن يعود، أو ما علمتِ بأنه أسرتْه آلهةُ البحار في قلعةٍ سوداء في جزرٍ من الدمِ والبحار. هو لن يعود، رحل النهار فلترحلي، هو لن يعود.» «السندباد/ أوليس» يُخاطب زوجهُ المنتظرة بـأن انتظارها مجرّد عبث لا طائل منه، فالرجل الذي تترقب عودته أسيرُ ربّةِ البحار، في قلعةٍ سوداء مبنيةً «فوق جزرٍ من الدم والمحار»، ولا أحد يعلم إن كانت ربّةُ القلعة ستطلقِهُ إلى النور، أم سيلقى حتفه. والمشهد مأخوذٌ من الأوديسة، فقد احتجزت أوليس الساحرةُ «كيركه» وحوّلت بّحارته إلى خنازير، وبقي أوليس عندها شهوراً عديدة. ثُمَّ احتجزته الحوريّة كاليبسو ثماني سنوات، ولم تطلق سراحه إلا بأمرٍ من الآلـهة، فعامَ في البحر يصارع العواصف الهوجاء. النصُ مبنيٌ على خطابٍ خارجيٍ بين «السندباد/ أوليس» و»زوجه»، مع أن بينهما بحوراً وجبالاً (وبالتالي يمكن اعتبار الخطاب مونولوجاً داخلياً في نفس الرجل) وعلى حوار داخلي في نفس الزوج؛ زوج السيّاب التي ألبسها قناعَ بنلوب. ومن قرأ الأوديسة يعلم أن هذهِ المرأة ظَلّت على عهدها لزوجها وانتظرته عشرين عاماً تحملت خلالها شتّى صنوف الترغيب والترهيب، فقد خطبها أمراء وملوك البلاد المجاورة، وابتدعت حيلة الثوب الذي كانت تحوكه نهاراً أمامَ خطّابها، ثُمَّ تنقض ما حاكته في الليل، حتى لا ينتهي الثوب أبداً. ذلك أنّها وَعَدتهُم أن تختارَ منهم زوجاً حالَ انتهائها من الحياكة. القصيدة تأتي على لسان «السندباد/ أوليس» وتنطلقُ من عبارةٍ مفتاحيّة «حل النهار»، والنهار هنا هو العمر، عمر الزوج المنتظرة الصابرة. ويلجأُ الشاعرُ إلى تكرار هذهِ العبارة كثيراً، بالإضافة إلى مقطعٍ كاملٍ يصفُ فيهِ أفق البحر بسحابِهِ الثقيل ورعودهِ وأمطارهِ وكل ما يبعثه ذلك من خوفٍ ورهبة، وبالتالي يضعنا في جوٍ نفسيٍ كئيبٍ ثقيلٍ يمهد للنهاية المحتومة. على «بنلوب/ إقبال» أن ترجِعَ إلى البيت إذاً وتتركَ الشاطئ البغيض، فالنهار قد رحَلَ ولا شيء في الأفقِ إلا سواد الموت! وسندباد نفسه لم يتمكن حتى من صونِ خصلةِ شعرٍ شقراء حفظها خلال رِحلتِهِ هذهِ لتذكرهُ بالزوجِ المحبوبة؛ ولم يستطع أن ينقذ رسائلها من الماءِ الأجاج: «رحل النهار رحلَ النهار. خصلات شعركِ لم يصُنها سندباد من الدمارْ، شربتْ أجاج الماء حتى شاب أشقرها وغارْ ورسائل الحب الكثار، مبتلة بالماء منطمس بها ألَق الوعودْ». ومع ذلك مازالت تنتظر سارحة الفكر، مترقّبة وخائفة عليه، وخائفة أن يذهبَ العُمرُ هباءً، ها هي ذي تحدّث نفسها دافعةً فكرة موته، متعلّقة بأملٍ أوهى من خيوط العنكبوت: «سيعود. لا. غرق السفين من المحيط إلى القرارْ سيعود. لا. حجزته صــارخة العواصف في إسارْ. يا سندباد، أما تعودْ؟ كاد الشباب يزول، تنطفئ الزنابقُ في الخدودْ. فمتى تعودْ؟» وسيبقى هذا المشهد الحزين الآسر يحوّم في فضاءاتِ معظم قصائد «منزل الأقنان» ضمن تنويعات مختلفة لا تشعركَ بالملَلِ أو السأم، سنحسّ بهذا البحّار ومعاناتِهِ في كل نص، من خلالِ أجواءِ البحرِ ومفردات الإبحار: «خذيني أطْر في أعالي السماءْ صدى غنوةٍ، كركراتٍ، سحابهْ! خذيني فإن صخور الكآبهْ تشدُّ بروحي إلى قاعِ بحرٍ بعيد القرارْ» وسنلمح خلف هذا الخطابِ دوماً امرأةً عراقية سمراء تختبي وراء قناع بنلوب الشقراء. أحياناً يطفَحُ الألمُ والحنق على الذات في أعماقِ الشاعر، فيبدأُ بتقريعِ نفسه وكأنَ بيدهِ أن يرجع، وكأنه أوليس بالفعل محتجزٌ في قصر الساحرة «كيركه» تَمنحَهُ ما لذ وطاب مقابلَ أن يظل إلى جوارها، بل يمعنُ في السخرية من نفسه، فهو – في حالِ استطاعَ العودة – لن يكون أكثر من حامل خرز ملون إلى امرأة يضيع عُمرها عبثاً، وهي تنتظر الحب والحنو والمآنسة، وقد فرضت على نفسها سجناً يشتركُ في بنائهِ الألم والفقر والعذاب: «ماذا حملتَ لها سوى الخرز الملوّن والضبابْ؟ ما خضتَ في ظلماتِ بحرٍ أو فتحتَ كوى الصخورْ والريحُ ما خطفت قلوعكَ، والسحابْ ما بَلّ ثوبَك. ما حملت لها سوى الدم والعذابْ في سجنها هي، خلفَ سورْ. في سجنها هي، وهو من ألمٍ وفقر واغترابْ». ثُمَّ كعادتِهِ يذهبُ في وصفِ كيفيّةِ ترقبها لعودتِهِ؛ كيف تزجُرُ أطفالها ليكفوّا عن العبث والصراخ كي تحسّ بوقع خطاه على الدرب وفي فناء البيت، ولكن كالعادةِ أيضاً، عبثاً تفعل ذلك، فها هو ذا الربيع يأتي ويذهب، ثُمَّ يجيءُ الصيفُ ويروح؛ فما الذي يعيقُ سندباد/ أوليس في تلك السواحلِ النائية، تصرُخُ بنلوب/ إقبال: «ماذا يعيقُكَ في سواحلَ نائياتٍ؟ في قصور قفرٍ يعيشُ الغولُ فيها، كلما رمت الرياح بحطامِ صاريةٍ تحفّزَ؟ ما يعيقكَ من رجوع؟ لم تبقِ للغد من دموع في مقلتيها، لا ولم يبقَ ابتسامٌ للِّقاء!». نلاحظ في هذا المقبوس كيف أفاد السيّاب من إحدى الحوادث التي أودت بكثير من بحارة أوليس، فقد رسا ما تبقّى سفنه في صقليّة وابتليَ مع رفاقه بالسيكلوب (الغول في الحكاية الشعبية العربية) بوليفيم ذي العين الواحدة، فالتهم نصف الرجال، وأفلح أوليس بالفرار بعد أن فقأ عين الوحش الوحيدة وأنقذ نفسه، ومن تبقى من رجاله... لكن الإفادة من هذه الحكاية تأتي عفوية عميقة لا تثقل على المتلقي ولا تبدو قادمةً من خارج النص أو السياق؛ وتجعل مسألة القناع الفني ناجحة. وسنجد ظلالاً كثيرة لقناع أوليس قي نصوص السيّاب التالية، ما يستدعي في الآن نفسه قناع بنلوب على وجه إقبال، كما هي الحال مثلاً في القصيدة التاسعة من سفر أيوب. وسنجد أيضاً ظلالاً لقناع سندباد نفسه واستحضاراً لرموز أخرى «كالحسن البصري» الذي جعل منه السيّاب جواباً يرى الدنيا ويعود إلى أجمل بقاعها... إلى العراق، كما في قصيدة «الليلة الأخيرة»: «يا أرج الجنّة، يا إخوة ُ، يا رفاقْ الحسن البصري جاب أرض َ واق واق ولندن الحديد والصخر ْ، فما أرى أحسن عيشاً منه في العراق ....» ودائماً هناك صورة زوج السندباد التي تنتظر، وزوج الحسن البصري وغيرهما لكن خلف الصورة نرى وجه إقبال، وطريقة انتظارها نفسها، فهي لن تفقد الأمل حتى اللحظة الأخيرة: «وزوجتي لا تطفئ السراج: «قد يعودْ في ظلمة الليل من السفر. « وتشعل النيران في موقدنا: «برود ْ هو المساء وهو يهوى الدفء والسحر ْ». |
|