|
ملحق ثقافي
اللغة كائن حي، ولكنه يسيطر على الإنسان، ويدفعه إلى أن يعيش من خلالها، حيث لا يمكنه أن يفهم أي شيء من دونها. إن الكتب العظيمة هي نتاج اللغة، وإن عقائد البشر جميعها هي لغة، وإن تفكير البشر كله، نابع من اللغة. وهذه الكتب العظيمة، هي تفوق لغوي بشكل من الأشكال، وأصحابها ممتزجون بها وملتحمون بكيانها أكثر من غيرهم. ولذلك فإن تأثيرها يتجاوز التأثير العقلي إلى العضوي. إذ، كثيراً ما يخرج أحدنا ليهيم على وجهه، بعد أن ينهي رواية مثل «الأبله» لدوستويفسكي، أو «الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر» لجنكيز إيتماتوف»، أو «بيدرو بارامو» لخوان رولفو. والقائمة تطول كثيراً. وكثير من هذه الأعمال تنتهي في جلسة واحدة، ليس لأنها صغيرة، أبداً، بل لأن لغتها الساحرة تدفع بالقارئ إلى متابعة القراءة والسهر إلى صباح اليوم التالي ليكملها. هي كتب فريدة تلك التي تدفعك إلى أن تنهيها في جلسة واحدة، ومن دون أن تملّ منها، وعلى العكس من ذلك فإنك حين تنهيها تصاب بقليل من الحزن، وتظل معلقاً بها لزمن، تستمر خلاله بتصفحها وإعادة قراءة مقاطع طويلة منها. هي كتب تحرك المياه الراكدة في عروقنا، وتؤجج وعينا وإدراكنا للأشياء من حولنا، وتعيد اكتشاف ما كان خافياً عنا. هي كتب لا تقتصر على الحكايات فقط، بل تتعداها إلى الجدل الفلسفي والقص التاريخي لحوادث الزمان، ولا تتوقف إلا عند إعادتنا إلى زمن موغل في تاريخ البشرية، حين كان الإنسان كائناً طبيعياً، لم تغرقه الحضارة بآثامها وآلامها وزخرفتها.
«خريف البطريق»، «مائة عام من العزلة»، «الحب في زمن الكوليرا»، ثلاث روايات لعرّاب الرواية السحرية غابرييل غارسيا ماركيز. إنها نموذج لكتاب الجلسة الواحدة، حيث لا يمكنك إلا متابعة حكاية أبطالها الغرائبيين في عالم ساحر. لا يمنحك ماركيز وقتاً لترتاح؛ إذ إنه يراكم الأحداث بصورة عجيبة، وبشكل متلاحق، وأنت تسمع لهاث الجنرال هنا، وهواجس أمه هناك، وأغاني الحب في أماكن متعددة. وتخاف إن أغمضت عينيك لوهلة، أن تهرب قارة أمريكا اللاتينية بأكملها من بين السطور، وتفقد أجمل عالم لحكايات الحب والقهر والموت. أما الرواية الأثيرة لديّ، والتي أعتبرها نموذجاً فريداً في عالم القص والأسلوب الروائي، فهي «بيدرو بارامو» لخوان رولفو. ولا أدري كم مرة قرأت هذا الكتاب، وفي كل مرة أنهيه في جلسة واحدة. هي رواية خرجت من كونها حكاية لاتينية، لتغدو ملحمة عالمية بامتياز. وعلى عكس روايات ماركيز الثلاث سابقة الذكر، فإن «بيدرو بارامو» رواية صغيرة ورشيقة وصاعقة، رغم أنها تصنف – ومن دون مبالغة – من الشعر الجميل من أولها إلى آخرها. إنها عالم قاسٍ، كتبه فنان مرهف، فبدا لوحة بديعة، لا يمكن أن يرسمها سوى خوان رولفو، وخوان رولفو فقط. وإذا كانت الرواية اللاتينية السحرية مدينة لرولفو، فإن الرواية العالمية أيضاً – وعلى المستوى نفسه – مدينة لرولفو في أسلوب القص ومتعة الحكي وجمال الشعر، وحتى في الكتابة بمشرط حاد من الجهتين، إنه مشرط تشريح لواقع مقرف إلى حد الموت، أو إنه موت مقرف؛ وهذا واضح من الحوارات الكثيرة، والتي نكتشف في نهاية العمل أنها تدور بين أموات، أموات في قبور تصيبهم رطوبة السطح، فيتململون ويحكون لنا حكاياتهم المؤلمة. أستطيع أن أذكر قائمة لا بأس بها من الكتب تقرأ في جلسة واحدة، بينها: «آلام فرتر» لغوته، «البؤساء» و»أحدب نوتردام» لهوغو، «دفاتر دون ريغو بيرتو» و»امتداح الخالة» لماريو بارغاس يوسا، مؤلفات نيتشه كاملة، مؤلفات شكسبير كاملة.. وهناك الكثير الكثير غيرها. فمن الطرف الآخر من العالم، أي من آسيا، وبالتحديد من أفغانستان، خرج روائي يدعى خالد الحسيني، وأعلن أنه يمتلك أدوات لتسطير ملحمة عالمية فائقة الجمال، فيها الملائكة والشياطين. كتب الحسيني روايته الأولى «عدّاء الطائرة الورقية»، مفتتحاً بها مشروعه العملاق، وأظهر للعالم أن أفغانستان ليست حرباً فقط، وليست طالبان وأخواتها، وإنما هي عالم مليء بالحب والوفاء، يستطيع أبناؤه – إن أرادوا وتكافلوا - أن يحرزوا تقدماً إنسانياً مهماً. إن الوفاء بين الناس لا ينتهي في الحرب، وعلى الناس أن يزيدوا من جرعات المحبة في الأزمات. ترجمت «عداء الطائرة الورقية» إلى 38 لغة، وحولت إلى فيلم هوليوودي. هي رواية عن الحب والصداقة الحقيقية، وما تفعله الحرب بأرواح ومصائر الناس. فيما بعد تلقيت رواية خالد الحسيني الثانية، وكانت بعنوان «ألف شمس ساطعة»، فأنارت بشموسها ألف دهليز، خُبأت فيه حكايات أفغانية ساحرة. إنها رواية صادمة، بلغة متفوقة. وهي خليط من عالم الجن والإنس والشهوة، في بلد ميزته الأولى أنه مأساوي بامتياز. حين كان خالد الحسيني يتحدث بلسان فتاة، يستعير روحها ومشاعرها وكلماتها العذبة، يستعير هذه الأشياء ويمنحنا إياها عن طيب خاطر مع إحناءة رأس أملاً منه بأن نقبلها: «آمل أن أشرككم، أن أنقلكم، وأن تستطيع الرواية أن تحرك مشاعركم وتترككم بقدر من التعاطف والتراحم تجاه النساء الأفغانيات اللاتي يعانين معاناة لا نظير لها». وحقيقة فعلت الرواية أكثر من إشراكنا وتعاطفنا؛ لقد وضعتنا في كابول نعاني كما يعاني ملايين الناس تحت وطأة الجوع والفقر والقتل والموت والدمار. إنها قدرة لغوية حملت الحسيني إلى أصقاع الأرض كافة. من عالم الرواية يمكنني أن أذهب إلى كتب التاريخ ومنها إلى كتب نيتشه، الذي أفضله شخصياً في كثير من قراءاتي الفلسفية. ولا أذكر أني بدأت بعمل من أعماله، ولم أنهه في يوم واحد، لسبب وحيد، وهو أنني كنت أشعر بأني بحاجة إلى تلك الأفكار، التي غيرت تاريخ العالم، وعليّ أن أستمد منها أفكاراً تساعدني على فهم العالم المتوحش، البائس، المغترب عن نفسه. وكان نيتشه هو أحد مفاتيح قراءة هذا العالم البائس. إن نيتشه ليس فيلسوفاً اعتيادياً، وليس شاعراً مألوفاً، إنه خليط من عبقرية وجنون معاً. إنه حالة خاصة في تاريخ الفلسفة. قرأت «هكذا تكلم زرادشت»، وتورطت في ألم العالم ومغزى الوجود. اندفعت لقراءة نيتشه بحزن (وهذا حقيقي)، وقرأت في ثلاث ساعات «العلم المرح»، ثم في عدة ساعات «شفق الأوثان». وتأكدت بأن عقله حرّ بدرجة منقطعة النظير، وفعلاً فإن «كل العقول الحرة تحدث ضجيجاً فظيعاً» كما يقول هو نفسه. إن اللغة تؤثر في قارئها أكثر من أي شيء آخر، ولذلك فإن تشاؤم شوبنهور يفعل فعله، ويخرب كثيراً من التفاؤل المرضي أو الكاذب الذي نمني النفس به. إن «العالم إرادة وتصور» جبل من التشاؤم، وهو محو حثيث لطاقة الأمل، إلا أنه، في الوقت نفسه، شراع لسفينتنا الغارقة في عواصف التدمير البشري. إنه ليس كتاباً تدميرياً حين يقرأ بعقلانية وبعقل منفتح، وليس وأداً للفرح، وإنما تنبيه قوي لما ستؤول إليه النفس البشرية، وما آلت إليه فعلاً. وأخيراً، فإن الكتاب الأكثر بدائية وعبقرية، هو «ألف ليلة وليلة» بسحره القادر على نقل الإنسان إلى عالم آخر، عالم مليء بالأفكار العظيمة والخلاقة، وهو، وإن عده البعض، حكايات بسيطة ومسلية، إلا أنه من الكتب التي شغفت العقول وحولت مجرى القص في العالم. إنه تحفة العالم، وأيقونته السحرية التي لا يدانيها جمال أبداً، أبداً. |
|