تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مفهوم الحرية

ملحق ثقافي
2017/11/14
سامر منصور

تعددت التعريفات والمفاهيم عن الحرية في الفلسفة، وسنلقي بداية نظرة موجزة على بعض هذه التعريفات الفلسفية..

الحرية عند السفسطائيين:‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

تُعتبر الحرية عند السفسطائيين حرية عقيدة وسياسة وفنون وأخلاق، وقد ركّزوا في المفاهيم التربويّة التي وضعوها على مفهوم الشعور بالحريّة، والاعتزاز بالنفس، وقد جعلوها قائمةً على العقل الإنسانيّ، فهم ينظرون إلى الحياة على أنها مجموعةٌ من الأفعال الحرّة التي يقوم بها الإنسان من أجل تحقيق ذاته. ويُرجع الفلاسفة السفسطائيون أن طول عُمر الإنسان يعود لتمتعه بالحرية النفسيّة الكاملة. وقد طالبوا بتوفير الحريّة لإرادة النفس الفرديّة، فمع الحريّة تبرز العقلانيّة الناصعة، فهي بذلك خطوة تعكس إيمانها العميق بالحرية الإنسانية.‏

الحرية عند أرسطو:‏

لقد اهتم أرسطو كثيراً بإنصاف الفرد وتحريره من كل أشكال الحتميّة، وقد آمن أرسطو بالحريّة الإنسانيّة إلى حدٍ كبير، ويؤكد أنّ بناء شخصية الإنسان من أهم الأشياء التي يجب على الإنسان الاهتمام بها، ويقول بأن الرذائل والفضائل التي نفعلها هي مسؤوليّة شخصيّة.‏

الحرية عند الأبيقوريّة:‏

حاول الأبيقوريّون منذ القدم السعيّ الجادّ لمحاربة المخاوف، والأوهام التي تُسيطر على عقل الشخص وتقف عثرة أمام حصولِه على حريته ومن ثم شعوره بالسعادة، فهم يؤمنون أنه بالرغم من الظروفِ السياسيّة والاجتماعية المُحبِطة التي يعيش فيها الفرد إلا أنّ عليه تحدّيها ومُحاولة التغلب عليها من أجل العيش بهدوء وحرية، وقد أعلن الأبيقوريون أن سعادة الإنسان كامنة في داخله، بل واعتبروا العمل على تحرير الإنسان من مخاوفه من مهام الفلسفة.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

الحرية عند عمانويل كانت:‏

يؤمن إيمانويل كانت بأنّه لا يوجد أحدٌ يُلزم الإنسان بالتعامل أو التفكير بالطريقة التي يُريدها، ويرى أن كلَّ شخص يستطيع البحث عن سعادته وفرحه بالطريقة التي يراها مناسبة له.‏

وبما أن الإنسان يتميز بالعقل عن سائر الكائنات، فلا تطور لدى أفراد الجنس البشري ولا ارتقاء دون حرية تتيح للعقل أن ينهض ويرتقي ويُخوض ميادين التجريب كافة. ومن هنا أنا أتفق أكثر ما أتفق مع سارتر وتحديداً في قوله: «الإنسان الحر هو الذي تحرَّر من المؤثرات الخارجية كلها.. والحرية هي أساس المعرفة». ويرى سارتر أن الحرية هي بمثابة المكوِّن الأساسي لوجود الإنسان، وأنه من الواجب على الفلسفات أن تصبح فلسفة للحرية وبذلك تكون فلسفة للوجود، أي وجود الوعي والقيم والفكر.‏

إذا أردنا الحديث عن مفاهيم تشكل محوراً في الحياة الاجتماعية كالحرية في الفعل والقول، فلا بد بداية من التمييز بين نوعين من الكائنات، الكائنات العاقلة والكائنات غير العاقلة.. وعلى صعيد الناس أراهم صنفين الكائن البشري والإنسان.. حيث يولد الجميع ككائنات بشرية ويرتقي القليل إلى درجة إنسان حين يشرعون في إعمال العقل بطريقة غير محكومة بالغريزة.. والكائن البشري الذي لا يستخدم عقله إلا لخدمة وتحصيل ملذات الجسد وترفيه الجسد في مسيرته لإشباع الملذات.. لا أرى فيه كائناً عاقلاً، ما لم يمارس ولو بنسبة ما التفكير خارج نطاق خدمة الجسد والغريزة، بمعنى ممارسة حياته العقلية، كون العقل هو الجزء الذي يميزه عن بقية الكائنات. ولا يهم إن كان الكائن البشري ناطقاً أو يمتلك وسائل نقل واتصال وتواصل متطورة لا تمتلكها الحيوانات، بل المهم.. هل يسخرها لتكريس إنسانيته أم لخدمة غريزته وما هو بدائي ووحشي فيه؟!‏

إن قدرة الكائن البشري على التعلم وعلى محاكاة الإنسان في الكثير من الأحيان لا تجعل منه إنساناً، ومن هذا الفارق الجوهري سننطلق للحديث عن مفهوم (الحرية). فالحرية في فعل وقول ما تريد يجب أن تكون مصانة، مادام مصدرها كائن طبيعي سوي في مسيرة تطوره الفيزيولوجية والسيكولوجية، أما إن كانت الإرادة منبعها شبق غريزي وشهوات جامحة للنساء والشهرة والمال.. إلخ فيجب ضبطها وعدم تحريرها لأنه لا يوجد ما يكفي لإشباع أطماع الناس جميعاً. وبما أن القول والفعل تسبقه إرادة، فيجب تقديم حرية العمل والتعبير للأفراد الذين يمتلكون أحلاماً وطموحات جمعية على أولائك الذين يسعون إلى مطامح ومكاسب شخصية.‏

فوسائل الإعلام مثلاً يجب أن تتيح الحيز الأكبر من التعبير لطليعة المجتمع ومثقفيه ومفكريه، فوحده المهتم كثيراً بالحلول الجمعية لما يعترضه في الحياة من مشكلات، هو من يجب أن يتمتع بأكبر قدر من الحرية في العمل والتعبير كي يتمكن من تجريب وبلورة وتشريع تلك الحلول في حال كان مصيباً. أما من يتمحور اهتمامه على حلول ومنافذ فردية للخلاص من المشكلات الاجتماعية، فلا بد أنه سيخرق النظام الاجتماعي ويعتبر أن كل عمل يقوم به بغية تحقيق مصلحته الشخصية هو عمل مشروع له، ما دام لم يكتشف أحد خلاف ذلك ومادام لن ينال جزاءً على اقترافه..‏

وإذا نظرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهي من أكثر الدول التي يتم تداول مفهوم الحرية فيها، نجد الكثير من العيوب الخطيرة في الحياة الاجتماعية هناك، ومنها على سبيل المثال عندما منحت البنوك وشركات الـ (فيزا كارد بطاقات الائتمان) والتي تمارس الدين بالفائدة.. عندما منحت الناس حرية الاقتراض، فقد اختار البشر في تلك الدولة المكسب السريع والكسل فتورطوا في شراء منازل وعقارات وأشياء وتقاعسوا لاحقاً عن العمل بغية أداء التزاماتهم إزاء وفاء ثمنها، ما أدى وسيؤدي إلى خلل هائل في الاقتصاد الأمريكي، حيث لا يقوم اقتصاد يلعب فيه الربا هذا الدور الكبير على فكرة أن كل حرز أو منجز يقابله جهد وعمل. وبالتالي هناك خلل اجتماعي وليس فقط خلل اقتصادي ناتج عن حرية منحتها البنوك والشركات للأفراد بتسديد ثمن الشيء بعد حيازته وليس قبلها. ولولا أن حكومات الولايات المتحدة الأمريكية تمارس البلطجة والتسلط على الصعيد العالمي وتحصل أموالاً طائلة من خلال المصالح التي تؤمنها هذه السياسات العدوانية، لكان المجتمع الأمريكي قد انهار وتفكك نتيجة تلك الحرية التي منحت لأفراده.‏

خلاصة القول إن الحرية في عمقها الاجتماعي قيمة محايدة وتكتسب أبعادها الإيجابية أو السلبية بناءً على بواعث الفعل والقول لدى من يزاولها، بمعنى منح الحرية في مزاولة فعل أو قول هو منح منافذ تأثير على المجتمع، ولا يجب أن تمنح للجميع في الدول المُتخلفة، وإنما تمنح لمن يتمتع بدرجة ما من الوعي والثقافة كي تكون حرية بناءة وليست هدامة..‏

إن فتح قنوات تلفزيونية دينية متطرفة تحت شعار حرية الإعلام، كاد أن يودي ببعض المجتمعات العربية إلى مأساة.. يقول فيكتور هوغو: (تبدأ الحرية أينما ينتهي الجهل). أما في المجتمعات المتقدمة التي يمتلك أفرادها درجة من الوعي تعينهم على التمييز بين ما هو منطقي وبين ما هو غير منطقي بين ما هو سوي وما هو مُختل بين ما هو ايجابي وما هو هدام سلبي، فلا بأس بمنح حرية التعبير للجميع، ذلك أنها تساعد على تعرية القوى الرجعية وفرزها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية