|
شؤون سياسية اكتسب ارتفاعه لدى المراقبين أهمية فاقت المؤتمر نفسه, من زاوية أن هذا العلم بوصلة تحدد الوجهة المتفق عليها وحدها بين الحضور الذين تباينت اتجاهاتهم الأيديولوجية وتعارضت الى حد التنابذ بالاتهامات, وفيها ما يبدد الانسجام السياسي المفترض توافره بين قوى تتصدى لإسقاط نظام وبناء نظام مختلف. ذلك أن قصة هذا العلم السوري تلخص تاريخ سورية الحديث وفيه التعارض بين وجهتين: الوجهة القومية, ووجهة الانكفاء القطري المتحلل من المسؤولية حيال الأمة العربية. ولم تلحق صفة الانكفاء القطري بهذا العلم إلا يوم الانفصال في 28 ايلول 1961. قبلئذ كان هذا العلم رمزاً لكفاح سورية ضد الاستعمار الفرنسي, ومن أجل الجلاء. لكن الحفاوة التي أحاطت ارتفاعه في 17 نيسان 1946, كانت مشفوعة بالتطلع الأغلب لدى السوريين الى الانتظام في متطلبات العقيدة القومية. والشاهد أن الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي, عبر عن هذا التطلع القومي العربي لدى السوريين في كلمته في احتفالية الجلاء 1946 بالقول: “لن يرتفع فوق هذا العلم إلا علم الوحدة العربية”. وقد تحقق هذا التطلع القومي بقيام الجمهورية العربية المتحدة 1958. أما بعد الانفصال فإن طي علم الوحدة, كان علامة مفتاحية في تحديد هوية القائمين على الانفصال, تفترق بهم عن هوية التطلع القومي وتصنفهم في خانة الانكفاء القطري الذي وجد معادله السياسي لاحقاً في تحلل أنور السادات من الالتزام القومي, تحت عنوان “مصر أولا”. ثمة قرائن على أن المجتمعين في انطاليا, إنما يعيدون إنتاج النزعة الانفصالية في سورية قبل نصف قرن, ونظيرتها المصرية قبل أربعين عاماً. فالانفصالية في أحوال العرب المعاصرة هي تغيير قواعد الاشتباك, بما تنزل معه “اسرائيل” من مرتبة العدو الرئيسي الى مرتبة العدو الثانوي, فالشطب بالتتابع. وبطبيعة الحال, فإن لهذا الإنزال مندرجات سلوكية في السياسة والثقافة, والاقتصاد والاجتماع, ومختلف جوانب الحياة العامة, وصولاً الى رسم العلاقات الخارجية, وتعيين لوائح الأعداء والأصدقاء. طبقاً لهذا التعريف فإن إجماع الانطاليين الوحيد الملموس كان على علم الانفصال 1961. فيما خلا هذا العلم, اختلفوا. لكنه “الخلاف” المقطور, تحت هذا العلم, بقاطرة تغيير قواعد الاشتباك التي حادت بمصر عن أمتها عبر كامب ديفيد, ويراد لها أن تحيد بسورية. فهم اكتشفوا, بعد انفضاض سامر التهريج في الحشد الى انطاليا, أنهم يفتقدون تعريفاً محدداً لمفهوم التغيير والاصلاح, في الاقتصاد والاجتماع, فتشاجروا أفقيا بالأيدي, وانشقوا عموديا في مسألة العلمانية ومتعلقاتها الإجرائية في الحياة العامة. ولم ترتق هذا الفتق, التوفيقية التي خلصوا اليها في بيان الختام بالامتثال لتعريف مبهم هو الآخر, في الدعوة الى “الدولة المدنية القائمة على ركائز النظام البرلماني التعددي” تجنباً للجدل حول العلمانية أو فصل الدين عن الدولة, كما لاحظت وكالات الأنباء في ملاسنة الاخوان المسلمين مع “العلمانيين” داخل المؤتمر. وهذا الإبهام المتنامي في خطاب الانطاليين منذ أواسط آذار الماضي, ليس رشقة رمايات طائشة في الحقل, بل إنه تعبير عن أزمة التوفيق بين الشكل في شعارات الاصلاح المرفوعة وبين المضمون الفعلي لوجهة الحراك المسلح الذي يرتدي قبعة “الإصلاح”. وهو تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة كتحصيل حاصل لتغيير السمت السياسي لسورية الذي يميزه علم الجمهورية العربية المتحدة, وركيزته الموجودة في الدستور, والقاضية بالالتزام القومي, بالنص على أن سورية جزء لا يتجزأ من أمتها العربية. فهذا النص هو جوهر العقيدة القومية التي استعادت علم الوحدة في 8 آذار 1963, بعد أن طوى نظام الانفصال هذا العلم, ويريد الانطاليون إعادة طيه مجددا. ولا يكتم الانطاليون, ومن يمولهم, أنهم يرومون تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة, في اتجاه فك ارتباط دمشق بالعقيدة القومية, ومن ثم ايقاف التدابير الاجرائية التي ينشئها دستورياً هذا الالتزام القومي, وفيها دعم مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. يقول أحد منظري الحراك “الاصلاحي” في سورية: “اذا آل الحراك الى نظام ديمقراطي غدا إنجاد المقاومات بالسلاح والعتاد, وربما بالمال, عرضة للنقاش المفتوح, وتصويت البرلمان ولجانه”. ثم إن سورية, يضيف هذا المنظر الاصلاحي الانطالي: “قد تريد الخروج من هذا الطور الممانع برمته”. أي من العقيدة القومية ومستلزماتها. فهذه هي الوظيفة السياسية للحراك “الاصلاحي” الانطالي, التي تعيد واشنطن صياغتها, كلما خبا سعير هذا الحراك المسلح حتى بالزعيق المتباكي على قتلى, انتفضوا لسماع أسمائهم في فضائيات الـC.I.A, كالدكتورة أمل حمادة التي اتصلت بالإعلام في 3/6 لتؤكد التلفيق في خبر استشهادها. أما بعد أن تناهت “الألبنضا والزيطة والزنبليطة” في انطاليا, الى الخيبة والخواء, فلم يجد مهندسو الحراك “الاصلاحي”, غير الإمعان في النفخ في رماد الفتنة. لأن مطلب واشنطن المعلن هو اسقاط دور دمشق القومي, بأي مبلغ من المال وبأي جياد, وحتى إن نكأت جراحنا الشخصية. كنا يافعين في 28 أيلول 1961 حين سارعنا الى التشبث بعلم الوحدة رداً على الانفصال. أما حين صدحت إذاعة حلب في 28 آذار 1962, بمقولة “هنا إذاعة الجمهورية العربية المتحدة”, فقد سارعنا كذلك الى علم الوحدة, والى الحلم الذي لم يتحقق إلا في 8 آذار 1963. وثمة من يريد الغدر به مجددا. إن جيلنا لم يتنكر يوما لعلم الاستقلال ذي النجوم الثلاث الحمر, لكنه يحتفظ بمقبضي اليدين وفي القلب بعلم الجمهورية العربية المتحدة ذي النجمتين الخضراوين, الى الأبد. |
|