|
الملحق الثقافي بعد أن انتهى احتضان «روافد» له، حيث تسلمته رسميًا صاحب فكرته وأضحى «مساحات شرقية» بذلك ممتلكًا لزمام القدرة على الاستمرار كمشروع قائم بذاته، ويحث هذا المهرجان الخطى في سبيل العمل على ترسيخ المبدأ الذي قام عليه، وتعزيز رؤيته الفنية التي تعكس تاريخ موسيقانا، وتبحث عن فضاءات مشتركة لمستقبل التراث الموسيقي في العالم الشرقي.
في دورته الثانية التي أسدلت الستار عنها في دار الأسد للثقافة والفنون «أوبرا دمشق» وعلى مدى عشرة أيام ابتدءاً من 21 أيار، كما أقامت بعض فعالياته في البيت الدانماركي بدمشق القديمة، يسبر «مساحات شرقية» الزمن بحثًا عن أصول وتفاعلات «المقام»، باعتباره حجر الزاوية في بناء الموسيقى الشرقية المعاصرة، وتتوسل الرؤية الفنية للمهرجان للوصول إلى أهداف هذا الحدث الثقافي الهام عقد محاضرات أكاديمية، وحفلات موسيقية، وورشات عمل، تجمع مبدعين موسيقيين، ومحاضرين مختصين، من سورية والعالم، كما يولي المهرجان، في هذا المقام، أهمية بالغة للاستفادة من الفرص الهائلة التي يتيحها التقدم المطرد كل يوم في أدوات الثورة التقنية، بغرض تطوير مناهج وطرق توثيق الإرث الثقافي التي لا تخلو اليوم من إبداع، ما يضع هذا الإرث في متناول المختصين والجمهور العام على حد سواء، ومن هنا يأتي حرص الدورة الثانية من هذه الفعالية على جعل هذا المنبر الفريد للموسيقى الشرقية بمثابة بوابة للتحفيز على تبادل المعلومات والأفكار بين المختصين في هذا المجال.
الغناء الديني- ------------------- يعتبر الإنشاد الديني المصدر الأساس لفن الغناء العربي، وتعددت التعريفات لمصطلح الإنشاد الديني.. وهو يطلق على نوع من الغناء تأتى منظوماته الشعرية وصيغه الأدبية في إطار الموضوعات الدينية، المدائح، الابتهالات، التسابيح، التكبير والموالد..الخ. كما عرف بارتباطه بفئة معينة من المؤدين أطلق عليهم لقب «المنشدين»، وقد ارتبطوا في الموسيقى والأداء بالطابع الديني.. لذا أكد المختصون أن له خصائصه المميزة له وحده، وإن لوحظ في الفترة المعاصرة أن كلمة «إنشاد» تطلق أيضاً على غناء القصائد الفصيحة أو المكتوبة باللغة العربية الفصحى. وقد عرف عن العرب القدماء غناء الشعر الفصيح، ذلك لدور الشعر الفصيح في توحيد لهجاتهم المختلفة، فنشأت في أواخر الجاهلية لهجة واحدة كان العرب يتكلمون بها جميعاً، وهى التي كانت في أشعارهم، والتي نزل بها القرآن الكريم، وقد استخدموا كلمات الإنشاد والغناء والسماع بمعنى واحد، وميزوا بحسب الموضوع، أناشيد الغزل، أناشيد الحرب، أناشيد المدح.. وهكذا، ويغنى إما داخل المساجد «حلقات الذكر – الابتهالات والتسابيح – أداء التلبية والتكبير في العيدين، الأضحى والفطر - في احتفالات الموالد – في تلاوة القرآن الكريم بطريقة التجويد والترتيل»، وخارجه «القصائد الدينية والمدائح المصحوبة بالموسيقى في حلقات الذكر – وتلك التي يؤديها المسحراتي في شهر رمضان – وفى السهرات الدينية» وكلها مصاحبة بالموسيقى المعبرة للمعنى، هناك شكل مميز في الإنشاد الديني عرف بـ»الحضرة» وتنقسم إلى قسمين: إلقاء نصوص الذكر بدون الألحان أو الموسيقى وتعتمد على عنصر الإيقاع من غير المقام الموسيقي مع ضبط النطق السليم للكلمات، أما القسم الثاني فهو الإنشاد وهو أداء الشعر بالنغم، إما جماعياً أو حوارياً بين المنشد والجماعة وفيه الإيقاع والمقام الموسيقى. وفي هذا الإطار تواجد في مهرجان «مساحات شرقية» عدد من الفرق التي تهتم بالموسيقا الدينية والصوفية فكانت هناك أمسية موسيقية برنامجها فصول من الذكر المتوارث في حلب نفذتها فرقة «نوا» بقيادة الموسيقي الحلبي إبراهيم مسلماني، كما قدمت فرقة الدراويش الدمشقية في حفلها الإنشاد الديني وتعطيره بمرافقة المولوية وخيرة منشدين دمشق الشباب، كما قدم تجمع «البشارة» للموسيقى العربية الفصحى من لبنان الشقيق سماع صوفي مسيحي إسلامي مشرقي.
موسيقا الكنسية البيزنطية ------------------------------------ أعطت موسيقا الكنسية البيزنطية بوجودها في هذا المهرجان من خلال جوقة القديس رومانوس المرنم الحمصي للموسيقى الكنسية البيزنطية رونقاً خاصاً حيث تفوح عبق التاريخ وإنسانية النغم، واستقت الموسيقى البيزنطية أصولها من الموسيقا اليونانية والسورية، فعند انتشار الديانة المسيحية في بلاد حوض البحر المتوسط كانت معالمها الأساسية قد استقرت في بلاد اليونان، وهكذا تأثرت الطقوس الدينية الشرقية بالموسيقى اليونانية، وتناولت من مقاماتها «ر.الموسيقا العربية» الموسيقية الثمانية ألوانها التعبيرية، وكان كهنة مدينة أنطاكية يعتقدون أن الشيطان يهاب الموسيقا والتراتيل الدينية، ورش الماء المقدس، لهذا أصبح للموسيقا الدينية عندهم دور وثيق الصلة بالكنيسة، وسعى أولئك الكهنة إلى تنقية موسيقاهم من الوثنية، وكان الإمبراطور البيزنطي يُعدُّ «ظل الله في الأرض»، ولهذا كان مقدساً يتطلب مركزه أداء احتفالات دينية ودنيوية معاً، فكان الغناء يعتمد نصوصاً شعرية في مديح الإمبراطور وتمجيد الرب، ثم ظهرت أناشيد أخرى في تمجيد القديسين، ويرتبط التطور الموسيقي الغنائي البيزنطي بالشعائر الأرثوذكسية منذ عهد القديسين باسيليوس «329-379»، ويوحنا فم الذهب «خريزوستوم» «347-407»، وقد أحدث هذان القديسان نوعين من الغناء الديني، يخص الأول منهما طقوس السنة الجديدة وبعض الأيام المقدسة، والآخر خاص بقداسات أيام الأحد والمواسم العادية الأخرى، واستمر هذان النوعان من الغناء الديني دون تغيير لقرون عدة، ولاسيما في شرقي أوربة وشمالي إفريقية وعند الشعوب البلقانية، ارتكز الغناء البيزنطي على «اللحن الموحد»، أي المفرد في جوقتين غنائيتين، الأولى من الرجال، والثانية من النساء والصبية، وكان يقوم بترتيل اللحن الأساس مغنٍ منفرد ترد عليه الجوقتان معاً أو بالتناوب بأداء «اللازمة» أي المقطع الذي يتكرر باستمرار، أي الغناء بالتجاوب، وأصبح هذا النظام سائداً في التقاليد الشعائرية البيزنطية، واستمر مدّة طويلة من الزمن، وكان كثير من الشعراء يلحنون أناشيدهم أيضاً، وقد أُطلق عليهم «الشعراء الملحنون أو الموسيقيون» وكان القديس يوحنا الدمشقي «نحو 676-754»، أحد أولئك الشعراء الملحنين، إذ قام بجمع وتصنيف أناشيد الشعائر الدينية في كتاب «الأصوات الكنسية الثمانية» التي صارت القانون الأساس للإنشاد البيزنطي.
موسيقا الشعوب ------------------------ للمرة الأولى في دمشق تخصص عبر محاضرة مع غناء حي للموسيقا الإيزدية قدمها المغني السوري إبراهيم كيفو وهو أرمني من محافظة الحسكة يحمل مشروعاً هاماً يحوي أداء موسيقا الفسيفساء الجميلة للجزيرة السورية «كردي، أرمني، سرياني، عربي»، ولكن هذه المرة قدم كيفو موسيقا لأقدم ديانة كردية وهي الأيزدية وتحدث عنها بشكل لائق، حيث أن الديانة الايزيدية ديانة عريقة تعود إلى عهود قديمة جداً، وتمتد جذورها إلى أعماق التاريخ البشري، وإلى أولى الحضارات البشرية، زمن سومر وآكاد وبابل وآشور، وإلى عهود ما بعد التاريخ، في روما وبيزنطة، والمسيحية، والدولة الإسلامية بعهديها الأموي والعباسي والى زمن الدولة العثمانية، وحتى عصر التكنولوجيا والتطور في هذا اليوم، والإيزيدية حافظت على جوهر كيانها ووجودها وفكر فلسفتها الدينية، رغم التغيرات والتحديات التي مرَّت بها عبر تلك العهود والأزمنة الغابرة، وإنَّ كل الأدعية والأقوال والطقوس الدينية فيها تؤكد مرور هذه الديانة في تحديات وتهديدات كبيرة كانت الغاية منها فناء معالمها ومفاهيمها نحو الخالق الأعظم ونحو الوحدانية في هذا الكون.. وإظهارها بشكل يراه مخططو تلك التحديات والتهديدات لهذه الديانة العريقة وقدمت تضحيات بشرية كبيرة في هذه الهجمات الشرسة ولكنهم فشلوا في كل المحاولات أمام إصرار وإرادة معتنقيها. إن كلمة الايزيدية تعني الاستقامة ونظافة القلب والإيمان بالله «أيزدان» «أزداي» وكل الخصال والصفات الحميدة لدى الإنسان الصادق الأمين مع نفسه وروحه ومع معارفه، ومن ثم مع خالقه، والعبارة التي يرددونها الايزيديون «نحن أيزيدون.. وبيضاء ملابسنا» تعني الطهارة في النفس والقلب والروح في جوهر الإنسان وبمرور ألاف السنيين صارت الكلمة أيزدي «أيزيدي» بحذف الألف، لخفتها على اللسان وهي جملة كردية متكونة من مقطعين أو كلمتين الأول أز «أس» بمعنى أنا والمقطع الثاني «داي» ومعناها الذي خلقني، وخلق الكون وهي دلالة واضحة وصادقة ومعبرة عن المعنى الحقيقي والجوهري والفلسفي لهذه الديانة، وتؤكد أن الايزيدية ديانة موحدة، لأن اسم الايزيدية «أزادي» تعبر على وحدانية الله وتشير إلى الخالق الذي خلقني، وأن تسمية هذا الدين تتعلق بالمعنى الجوهري لمعرفة الإنسان الايزيدي بخالقه الله «أزداي»، وليست تسمية حديثة كما كان يظنه البعض.
وفي هذا الملتقى الكبير الذي استمر عشرة أيام استمع الجمهور الدمشقي إلى الغناء الكلاسيكي الهندي عبر فرقة إندراني موكرجي من الهند، والغناء الأوزباكستاني من فرقة يولدوزتوريفا التي أتت من بلدها لهذه الغاية، بالإضافة إلى المغني الإيراني محمد معتمدي، وأمسية جميلة خصصت للغناء السرياني العريق أحيتها جوقة «الفخارون» بمشاركة المغنية السورية المعروفة ليندا بيطار وسمير ورطان ومريام اسكندر وميشيل سنونو وسناء بركات. موسيقى معاصرة كان هناك مساحة واسعة للموسيقى السورية المعاصرة من خلال فرق وموسيقيين شباب بدأت مع فرقة مقام بقيادة الموسيقي مياس اليماني وتضم الفرقة إلى جانب اليماني، عازفة الكمان ماريا أرناؤوط «مديرة دار الأوبرا الدمشقية»، فراس حسن «إيقاع»، فادي حتر «تشيللو»، باسم جابر «كونترباص»، وقدمت مجموعة من مؤلفات موسيقية سورية معاصرة. كما قدمت فرقة عازفي مهرجان دمشق المؤلفة من كنان العظمة «كلارينيت، مشرف الفرقة»، مياس اليماني «كمان»، ثائر عيد «فيولا»، فادي حتر «تشيللو» وقدمت هذه الفرقة قطع موسيقية للمؤلفين السوريين «ضياء سكري، شفيع بدر الدين، رامي شاهين، زيد جبري، نوري اسكندر، كنان العظمة»، وفي هذا الإطار أيضاً قدم عازف العود السوري عصام رافع وعازف القانون السوري فراس شهرستان بمشاركة التركي فكرت كاركايا مجموعة أعمال لعصام رافع وقطعة موسيقية للمؤلف الفلسطيني روحي الخماش، كما أحيا عازف العود كنان ادناوي حفلة صولو على العود أدى فيها ارتجالات وعدد من مؤلفاته. ومن المعروف بأن الموسيقا السورية الآلية «الصرفة» المعاصرة ظهرت مع الراحل صلحي الوادي وضياء سكري ونوري الرحيباني ونوري اسكندر ووليد الحجار والولادة الحقيقية لهذا الشكل الموسيقي كان مع تخريج أول دفعة من المعهد العالي للموسيقا بدمشق أواسط التسعينيات وظهرت على الساحة السورية وامتدت إلى العالمية أسماء عديدة من المؤلفين الموسيقيين الشباب منهم «حسان طه، زيد جبري، شفيع بدر الدين، رامي شاهين...». الختام ----------- اختتمت فعاليات «مساحات شرقية» بحفلة خصت للمقام العراقي الجميل أحياها الموسيقي العراقي الكبير حسين الأعظمي بمرافقة فرقة موسيقية مختصة بالمقام. يتألف المقام من عدة مقاطع لا تقبل الزيادة أو النقص أهمها الارتجال الكامل الذي يعتمد على السمع وينطق بالحنجرة وبالتنقل على السلالم الموسيقية بطريقة مضبوطة خالية من النشاز، وهو غناء فني وضعه ولحنه مغنون عراقيون ووضعوا له القواعد والأصول التي لا يجوز بأي حال من الأحوال البعد عنها ولا يجيدها إلا من تعلم القواعد والأصول، ويعتبر الأعظمي من المميزين في أداء المقام العراقي في المرحلة الحالية بالإضافة إلى المغنية فريدة محمد علي وفؤاد السالم وآخرون. وبالتزامن مع هذه الفعاليات كان هناك وفي الفترة الصباحية طيلة أيام المهرجان مجموعة من المحاضرات القيِّمة تخص الموسيقا الشرقية من كل جوانبها شارك فيها العديد من الأسماء الكبيرة منها: محمود القطاط «تونس»، نداء أبو مراد وبشرى بشعلاني «لبنان»، جان ديورينغ «فرنسا»، قدري دلال و صميم الشريف وجميل ولاية ونوري اسكندر وفراس السواح «سورية»، بالإضافة إلى أسماء مهمة أخرى من عدة بلدان. |
|