|
آراء لذلك كان احترامها والحفاظ عليها هو بحد ذاته حفاظ على التاريخ المرتبط بها على مرّ السنين. ولا نزال نذكر أن الرئيس الراحل حافظ الأسد أول السبعينيات قد اهتم بهذه المعالم ومنحها ما تستحق، إذ أعطى تعليمات تقضي بإبقائها معالم وطنية، وصيانتها وترميمها، كما جرى لمدرسة التجهيز في اللاذقية «ثانوية البنين ثم جول جمال» لأنها خرّجت أجيالاً من المناضلين في سبيل الاستقلال والمدّ الوطني والقومي. ولم يكتف بذلك بل أصدر مرسوم استملاك بعض الأجزاء المحيطة بها حتى لا تقترب الأيام القادمة من هالتها أو معناها الذي كان وما زال جزءاً من الذاكرة الوطنية. ولم يكن ذلك إجراء لمنطقة بالذات بل جاء عاماً وشاملاً المناطق السورية كلها حيث كان فيما بعد ترميم وتجديد الجامع الأموي وبعض المعالم الأخرى منطلقاً لها. نسمع بين وقت وآخر أقوالاً عن أوضاع التجهيز بدمشق «جودت الهاشمي، ابن خلدون» وعن قدم مبناه و«تهالكه» وعن كونه «بقعة قديمة» في منطقة مزدحمة تعاني اختناقاً كبيراً في حركة المرور، ونقرأ بين حين وآخر معلومات مفادها أن «النوايا الحسنة» تتجه إلى إزالة هذا الصرح لغايات متعددة. كم من المناضلين درس وتخرج من هذا الصرح؟ وكم من رجال الثورة والفكر درجوا في أروقتها وباحتها وفي قاعاتها أيضاً؟ وكم من رجال وطنيين علّموا الأجيال في هذه المدرسة حتى كانت نواة للصرح العلمي الذي بنى أول لبنات الحرية والمد القومي بل كانت نواة وزارة المعارف لاحقاً. إن الحفاظ على هذا الصرح واجب وهو في الوقت نفسه حفاظ على الذاكرة الوطنية والقومية لبلادنا. في بلاد العالم تفتش العقول النيرة عن منزل أديب كبير أو فيلسوف أو فنان لتحيله إلى متحف أو صرح وطني لا يجوز ولو بالتفكير الاقتراب منه فما بالك بإزالته؟ ونحن نعرف أن في أرجاء الدنيا أمثلة لا تحصى عن هذه المعاني وقدسيتها، هل يهدم في باريس منزل فيكتو هيجو؟ وهل تقترب الجرافات والمعاول من منزل «غوته» في فايمار بألمانيا؟ وحتى مبنى الطاحونة الحمراء في الحي اللاتيني بباريس «وهو ملهى» فقد حافظوا عليه واحترموا فيه لوحة «تولوز» ولا يزال وتزال باقية بقاء الأيام, وهل يفكر أحد بإزالة «برج إيفل» لأنه يعرقل السير؟ وهل مسموح الاقتراب من قدسية منزل أو أماكن درج فيها «شكسبير» في بريطانيا؟ وهل يخطر في بال أحدهم أن يمس مبنى البرلمان الفرنسي حيث بناؤه العتيق وذكريات «روبسبير» ورفاقه في الثورة الفرنسية فيه؟؟ إنهم يقدسون معانيهم الوطنية والأدبية والفنية إلى درجة العبادة فما بالنا نحن لا نحفل إلا بالقليل القليل من هذا؟ إن بعض الأخبار كما قلنا توحي أن صرح التجهيز هو بناء قديم في منطقة مكتظة وجديدة تحوي فنادق عصرية ومكانه مجال للاستثمار الناجح. إن وزارة التربية معنية بهذا الأمر حصراً، فالبناء لها ومن علّموا في هذا الصرح جزء من رجالها الخالدين الذين تغص به وبهم مناهجها التي تعلمها للأجيال ولنا في شخص السيد وزير التربية الدكتور علي سعد المثقف والمتابع والذي يعمل بصمت في هذه الوزارة خير مدافع عن بناء التجهيز لأنه أولاً وأخيراً هو الوزير المختص, وهو قبل أي شيء مدرس في جامعة دمشق يدرك ويقدر دور التربية والتعليم وأثره الفعال في بناء الأجيال ويقدر أيضاً دور الرواد الأوائل في غرس مفاهيم النضال ومعاني الحرية والاستقلال في نفوس الناشئة والأجيال المقبلة. ويقدر إضافة إلى ذلك دور هذه المدرسة الثانوية في تعليم وتربية الأجيال التي صار الجلاء والحرية واقعين ملموسين بفضل نضالها وفدائها. فثانوية التجهيز وبناؤها خط أحمر ما دامت الذاكرة الوطنية والقومية خطاً أحمر أيضاً وهذه مناسبة أكيدة لمطالبة السيد الوزير بترميم وتحسين ذلك البناء وبالإبقاء على هويته ومكانته في الوجدان الوطني حتى لا يقول عنا المغرضون: إنهم يهدمون صروحهم العلمية ويزيلون ذواكرهم بينما يفتخر الأجانب بها قبل العرب خاصة أن هؤلاء الأجانب قد قالوا: يجب أن يكون للمرء وطنان، وطنه الأصلي وسورية مهد الحضارات». إن وزارة التربية ليست مطالبة بترميمه فقط بل بأن تلغي من أذهان ونفوس البعض حتى مجرد التفكير بالمساس به خاصة أن معاول الثراء قد أزالت قصوراً وأبنية وصروحاً في مناطق متعددة من دمشق وغيرها بينما كان صونها واجباً مقدساً. ولا نزال نذكر أن منزل الشهيد يوسف العظمة قد تعرض هو الآخر لمحنة من هذا النوع لولا تدارك الإعلام والصحافة على وجه الخصوص والضمائر الحية ونخوة المسؤولين الذين تداركوا أهمية وجوده وضرورة عدم المساس به لأنه مسكن رمز وطني من رموز الثورة والمقاومة في هذا القطر بل هو أول وزير حربية في العالم يستشهد وهو على رأسه حفنة من رجاله الأحرار يواجهون القوة الفرنسية العاتية في ميسلون. فجرى تحويل منزله إلى متحف خاص بيوسف العظمة وأحداث ميسلون ورفاقه الذين نافحوا معه فاستشهدوا وإياه في وقفة باسلة لا تزال الأجيال تذكرها على مر السنين والعقود. |
|