|
إضاءات مفاهيم الحفر من أواخر القرن الثامن عشر، إلى أواخر القرن العشرين.هذا يعني أن الطاقة الإبداعية الكامنة في ذاكرة الإنسان التدمري لم تستطع يد الدمار مساسها، وهذا يقودنا إلى الحقيقة التالية: إن الطاقة الإبداعية لدى الشعوب تبقى ما بقيت هذه الشعوب مهما لحقها من دمار سياسي وهجمات حضارية..». وقبل ذلك بخمس سنوات، وتعقيباً على المعرض الذي أقامه الفنان علي سليم الخالد إثر تخرجه من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق رأى الفنان المعلم الياس زيات أن لا غرابة في الحالة الإبداعية التي قدمها في أعماله ، فهو « سليل قوم جعلوا من الحجر الأبيض الأصم أشكالاً ومنحوتات آدمية ونباتية سجلها تاريخ الفن كنماذج فريدة من نوعها، وشواهد على حضارة قومٍ كانت تتفاعل مع حضارات أقوام العالم في زمانها..». وفي عام 1984 يعود المعلم زيات للكتابة عن تجربة الفنان، فيقول: «إذا كان جور الزمان قد قضى بأن اندثرت أهم المنجزات الفنية في العصور الغابرة في بلادنا، ولم يبق منها إلا النزر اليسير، فلا يظنن أن شعبنا لم يستمر في العطاء الحضاري والفني.إنه ما انقطع عن المشاركة في رفد مسيرة الحضارة في الدنيا. وما إنتاج علي سليم الخالد من فن الحفر المعاصر سوى تعبير عن قدرة الفنان العربي على استيعاب الحضارة المعاصرة.وفوق ذلك فهو روح تدمري استيقظ من غفوة طويلة ليداوم الحياة الجديدة بكل جديد. ». يلفت النظر فيما سبق التقاء أثنين من أعلام الفن التشكيلي السوري المعاصر (والثقافة)، عند أهمية الإرث الفني، في استمرار الحضور والإنجاز الإبداعي عند الأفراد كما عند الشعوب، كون هذا الإرث يمثل في جوهره أحد تجليات ثقافتها الوطنية، وهويتها المميزة، وبهذا المعنى يصبح استمرار وجود هذه الشعوب. في عالم يموج بالعنف والتطرف ومساعي الإلغاء المتعددة الأشكال، وفي مقدمتها الإلغاء الثقافي، يصبح استمرار هذا الوجود مرهوناً بقدرة أي شعب على حفظ هوية ثقافية خاصة، قادرة على صون إرثها، وفي الوقت ذاته التواصل مع زمنها الراهن.والتفاعل مع ثقافات الآخرين. ليس المؤمنون بالمجتمع البشري الحضاري، وبثقافته الإنسانية الرحبة، وحدهم من يدرك الحقيقة السابقة، فأعداء الإنسانية من غزاة ومستغلين،وغلاة المتعصبين والعنصريين يدركونها أيضاً، وإن لم يؤمنوا بها، لهذا لم يكفوا منذ أقدم العصور عن مساعيهم لمحو ثقافة الآخرين، بإحراق نتاجهم المكتوب،وتدمير عمائرهم،ومحاربة فنونهم البصرية والسمعية, وتغييب إرثهم الثقافي والإبداعي،والشواهد التاريخية أكثر من أن تعد. ويحفظ التاريخ المأساوي لبلادنا قيام الرومان بتدمير «تدمر»، وإزالة ما أمكنهم من هويتها الحضارية وذاكرتها البصرية، كما يشهد إحراق «هولاكو» لمكتبة «ألموت»، وإغراق كتب بغداد في النهر، وخطف «تيمورلنك» للصنّاع والحرفيين الدمشقيين قبل إحراق مدينتهم، وسرقة جيوش الفرنجة للمخطوطات والكتب، ومنع أصحابها من الإطلاع عليها حتى يومنا الراهن. ما سبق هو مجرد أمثلة متفرقة عن بعض ما تعرضت له بلادنا من محاولات لمحو ثقافتها وتراثها.وهو الأمر الذي تكرر بأشكال مختلفة في كل مكان حل فيه الغزاة، ففي الهند حرّم المستعمر البريطاني على أهل البلاد زيارة معبد «كاجورا»، وسمحوا فقط للأجانب بذلك، وكادوا أن ينجحوا في حجبه عن المعرفة الإنسانية لولا بعض المثقفين المتنورين، ومنهم شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة الذي كتب فيه قصيدة رائعة،وفي أميركا الشمالية دمر المستوطنون الأوروبيون كل التراث الثقافي و المعماري والفني لسكان البلاد الأصليين، وحذا حذوهم نظراؤهم الذين غزوا أميركا الجنوبية وأستراليا وأفريقيا. وعلى خطاهم ما يزال يسير اليوم المستوطنون الصهاينة الذين دمروا الكثير من التراث الفلسطيني، وسرقوا بعضه الآخر، ونسبوا إلى أنفسهم جزءاً ثالثاً منه. على حين هم مستمرون عبر أعوانهم عن تدمير الثقافة والإبداع في أي أرض عربية يستطيعون.لأنهم يعرفون جيداً أن وجود شعوب بلا هوية وطنية جامعة، يجعل غايتهم في السيطرة والاستغلال أكثر قوة على التحقق. ولهذا..ولسواه..يصبح الدفاع عن الثقافة الوطنية شرطاً للوجود نفسه. |
|