تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


روبرت بيرنز ..الفلاح الذي علمته السماء قول الشعر

فضاءات ثقافية
الثلاثاء 12-2-2013
في ليلة الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني من كل عام، يُحيي ملايين الاسكتلنديين في وطنهم الأم اسكتلندا، وكذلك في أماكن إقامتهم بمختلف دول العالم، عيد ميلاد شاعرهم الوطني الشهير «روبرت بيرنز» «25 كانون الثاني 1759-21 تموز 1796»، في احتفالية كبرى تُسمى ليلة أو عشاء بيرنز.

يحتفل الاسكتلنديون بميلاد شاعرهم «روبرت بيرنز» صاحب «نشيد الوداع» وأشهر نشيد ملحمي وطني، وتشاركهم ملايين أخرى من عشاقه من مختلف جنسيات العالم، ويبدأ هذا الاحتفال فى أستراليا ثم ينتشر في آسيا فالشرق الأوسط ودول المتوسط ثم دول أوروبا وبعدها دول أميركا الشمالية والجنوبية، ليشمل بذلك قارات العالم من خلال 200 جمعية أو نادياً منها ما يوجد في أغلب دول الخليج، إذ في الإمارات وحدها، توجد جمعيتان تحتفلان بهذه الليلة، إحداهما في دبي والثانية في أبو ظبي.‏

وليست فكرة الاحتفال هي فقط ما يميز هذه الليلة، بل الطقوس التي تتبع فيها: حيث تبدأ بالترحيب بالضيوف ثم تتقدم فرقة موسيقا القرب وهي ترتدي الزي الوطني الاسكتلندي، وخلفها الطاهي يحمل صينية ضخمة عليها «الهاجس» عشاء الشاعر بيرنز المفضل.‏

وعندما يوضح الهاجس أمام الضيوف، ينشد أحدهم قصيدة «بيرنز» الشهيرة «في مديح الهاجس»، وبعدها يقوم آخر بالحديث عن حياته، ويقرأ بعض قصائده الشهيرة، ثم يبدأ العشاء في جو من المرح الصاخب، وفى نهاية الليلة يغني الجميع أغنية أو قصيدة «أولد لانج سين» التي كتبها بيرنز في استقبال العام الجديد!‏

وإذا كان هذا الاحتفال الفريد والطريف قد يثير إعجاب البعض، فلابد أن هذا العجب سيزداد عندما نعرف أن الاحتفال بهذا الشاعر قد تجاوز عيد الميلاد، إلى إقامة التماثيل ونصب التذكارية في العديد من دول العالم, ففي اسكتلندا وحدها أكثر من 25 تمثالاً ونصباً تذكارياً، وفي الولايات المتحدة 15 وفي أستراليا 8 وفي كندا 10 وفي نيوزلندا 3 وفي لندن تمثال ونصب تذكاري، غير دول أخرى.‏

أضف إلى ما سبق احتفاء وتقدير العديد من الدول بهذا الشاعر, وهذا ما لم يحدث من قبل لأيّ شاعر آخر من كبار شعراء العالم لغوته الألماني, ولابوشكين الروسي, ولا دانتي الإيطالي، ولا حتى شكسبير شاعر الإنكليزية الأشهر. ولعلنا نتساءل الآن ما سر هذا الاحتفاء والتقدير الوطني والعالمي لهذا الشاعر حتى وصل إلى هذه المكانة التي يحسده عليها شعراء العالم حياً وميتاً؟‏

في أواخر تسعينات القرن الماضى، عقد في بريطانيا مؤتمر دولي حول «روبرت بيرنز» بمناسبة مئويته الثانية، في جامعة ستراثكلايد في أدنبرة عاصمة اسكتلندا، وشارك فيه أكثر من ثلاثين أكاديمياً متخصصاً في دراسة آداب اللغة الإنكليزية، خصوصاً الأدب واللغة الاسكتلندية، وشعر «بيرنز» وأعماله الإبداعية بشكل أخص. وقد تناولت الأوراق كل الجوانب الشخصية والإبداعية لبيرنز، وأثره على شعراء وأدباء الثقافات الأخرى ولكن المهم ذكره هنا, هو أن المؤتمر جاء تحت عنوان رئيسي هو: الحب والحرية! الاحتفال بروبرت بيرنز في مئويته الثانية.‏

وعند تطبيق هذه الثنائية على إنتاجه الإبداعي وحياته العاطفية الصاخبة المليئة بالحيوية، تجدها صالحة تماماً بل ومفيدة كمفتاح لدراسته شخصاً وفناً.‏

واستبعد من هذا الإطار حياته العملية، لأنها كانت تثير الغيظ والإحباط إلى أبعد الحدود، وليس فيها الكثير مما يغري الباحث، فقد بدأ والده حياته كفلاح مستأجر، ولكن الأرض كانت عنيدة ومعادية، رغم كل الجهود التي بذلها لاستثمارها، وكان بالكاد يحصل منها على ما يقيم قوت أسرته، وفي هذه الأسرة الفقيرة، التي تكافح كي تعيش فقط، ولد روبرت بيرنز وأخوته، ولم يكد يشتد عوده حتى دخل مع والده في صراع يومي مع هذه الأرض المجدبة من أجل البقاء.‏

ورغم ذلك كان من حسن حظ «روبرت»، أن أمه كانت على شيء من الثقافة، وكان والده يعرف القراءة والكتابة بشكل جيد ويقرأ للأسرة كل مساء، بعد انتهاء العمل في الأرض، وكان هذا الأب رغم فقره ومعاناته يدرك أهمية التعليم، ولذلك اتفق مع بعض الأسر الأخرى على الاستعانة بمعلم خاص ليعلم أولادهم في المنزل.‏

وكان من حسن حظ روبرت أيضاً، أن وقع الاختيار على معلم واسع الثقافة اسمه جون ميردوخ وكان يجيد اللاتينية والفرنسية. كان تأثير هذا المعلم على روبرت بعيد الأثر، بعد أن لاحظ تعلق الصبي باللغات والمعرفة.‏

وعندما أنهكت الأرض طاقة الأب وقضت عليه، لم يكن أمام روبرت، إلا أن يواصل مع أخيه مسيرة الصراع مع هذه الأرض القاحلة العصية، وحتى عندما استأجر أرضاً أخرى عسى أن يعوض ما خسره في الأولى، لم يكن أسعد حظاً واستمرت معاناته.‏

ورغم هذه الحياة الصعبة، كان روبرت مقبلاً على الحياة العاطفية بعنفوان يليق بشبابه المشتعل، وكان، والحق يقال، وسيماً فاتن التقاطيع، وكان من حسنات العمل الدائب في الأرض، أن جعله متين البنيان، فكان يسهر كل يوم في أماكن اللهو ويختلط بفئات الشعب الفقيرة، ويلاحظ بعين الشاعر وإحساسه العميق كل تفاصيل هذه الحياة، ويعيد إنتاجها في قصائده العاطفية، وتلك التي تتغنى بالطبيعة وتمجد الحرية والانطلاق بلا قيود. فكانت قصائده سجلاً دقيقاً لحياته ومغامراته العاطفية، وأيضاً ملاحظاته حتى عندما يعمل على المحراث في الأرض، فقد اصطدم سن المحراث ذات مرة بجحر فأر من فئران الحقل, فدفعته هذه التجربة إلى كتابة قصيدته الشهيرة «إلى فأر».‏

ولم يجد الفتى من سبيل للخلاص، إلا أن يغادر الوطن إلى مكان بعيد. واختار جامايكا، ولكن نقص المال وقف عائقاً أمام نجاح خطته. وأخيراً اهتدى إلى حل ينفذ به خطته، وهو أن يجمع أشعاره وأغانيه ويطبعها فى كتاب، ومن عائد الكتاب يسافر خارج الوطن، ورب ضارة نافعة. فلم يحصل فقط على المال وهو مبلغ ثلاثين جنيهاً، وهي ثروة بحساب ذلك الزمان، بل نجح توزيع الكتاب أو الديوان وبيعت جميع نسخه، بل ما هو أكثر من هذا جلب له هذا الديوان شهرة، كان يستحقها في الأوساط الأدبية في العاصمة أدنبرة.‏

وهنا تغيرت خططه، وبدأ مستقبله الإبداعي الزاهر. خصوصاً بعد أن غير والد جين معارضته زواجها من روبرت الذي أصبح شهيراً الآن. وكان أن سافر روبرت إلى العاصمة، وهناك استقبله الوسط الثقافي استقبال الأبطال الفاتحين. فقد وجدوا في هذا الفلاح الشاعر معجزة حقيقية، وقال بعض النقاد: «إن السماء هي التي علمته وألهمته ليقول هذا الشعر الرائع».‏

ولم يطل المقام بروبرت في العاصمة، فقد نفدت نقوده، ولم يشعر بأن مكانه بين هؤلاء المثقفين المتعالين على فقراء الشعب، فرجع إلى أحضان الفقراء، وفي هذه المرحلة بدا حسه القوي بالفوارق بين الطبقات، فكان صوته عالياً في الدفاع عن حقوق الفقراء، وقضى سنوات يجوب القرى يجمع الأغاني الشعبية، ويعيد إنتاجها في صياغة جديدة، جعلت عامة الشعب ترددها وجعلته أقرب وأقرب إلى قلوبهم، ووجدوا فيه بطلهم المحبوب وشاعرهم الذي ينطق بلسانهم فأحبوه وأصبح شاعرهم القومي منذ ذلك الزمان وحتى الآن، بل أعظم شاعر أنجبته استكتلندا، كما جاء في بعض الاستفتاءات التلفزيونية الأخيرة.‏

هذا إضافة إلى أشعاره البسيطة الجميلة، مثل قصيدة «حبي مثل وردة حمراء قانية» هذه القصيدة غناها كثير من المطربين وتأثر بها المغني الأميركي الشهير بوب ديلان.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية