|
ثقافة يكبرُ عاماً، تكبرُ هي عاماً أيضاً.. دون أن تدري أنها تحبُّه أو تكرهُهُ.. وعندما يلتقيان.. يتأبَّطُ كلٌ منهما ظِلاً مختلفاً.. قد كَبُرَ عاماً أيضاً.. محمد ياسين صبيح) في جمعية العاديات بطرطوس، كانت ثمة أكثر من مكوّن للجمال اجتمعت في زمانٍ ومكانٍ واحد لتقديم حالةٍ ثقافية كانت من الفرادة والجمال بمكان في زمن المحن السورية هذا؛ تلك المحن التي يُصدّرها الأعداء منذ كانت سورية في أول نشوئها الفينيقي.
من تلك المكونات التي تعاون على إنتاجها كل من جمعية العاديات - فرع طرطوس، ورابطة القصة القصيرة جداً في سورية؛ كان حضور فخامة المكان الذي أقيمت به فعاليات الملتقى الأول للقصة القصيرة جداً، وأقصد ما تُسمى بـ «القاعة القديمة» في الواجهة البحرية على الكورنيش في طرطوس العتيقة، ثم الحضور اللافت طيلة أيام الملتقى الثلاثة بكل فعالية التلقي، وكذلك المشاركة الواسعة لمبدعي فن القصة القصيرة جداً من مختلف المحافظات السورية، ولمبدعين عرب من مختلف الدول العربية، فقد تجاوز عدد القاصين المشاركين في هذا الملتقى الذي سيكون دورياً كل سنة في ذات المكان والزمان أكثر من خمسين قاصاً وقاصة، كما تجاوز عدد النصوص المشاركة أكثر ثلاثمئة نص، ينتمي أغلبها لإبداع الأقصودة التي يبدو أنها تتجه بهذا المنحى، أي ما يُمكن أن نطلق عليه خلاصة القصة القصيرة والقصيدة، وما يؤكد رأينا؛ أن القصة القصيرة جداً؛ ذلك الإبداع الماكر الذي أطاح بين أكثر من جنسٍ أدبي لاسيما بين القصة القصيرة والقصيدة وأخذت زبدة جماليات الجنسين الإبداعيين، الحكائية والحدث المتصاعد الذي ينتهي بمفارقة صادمة من القصة، والشعرية من القصيدة، ومن ثم كان أغلب من يكتبها اليوم قادمون من مرجعية شعرية، أي معظم مبدعيها من الشعراء، الأمر الذي يؤكد «مصطلحنا» الذي أطلقناه عليها في وقت مبكر، وهو «الأقصودة» . (صراع تصارع وعلٌ مع وعلٍ آخر للفوز بقلب من يحبان، تقاتلا حتى علقت القرون ببعضهما، وماتا وهما ينظران إلى وعل غريب كان يقترب منها بزهو. ميلاد ديب) وفي قراءة بانورامية للقصص التي ألقيت؛ يُمكن أن نقرأ أكثر من مستوى، فإضافة لما أشرنا إلية من شعرية النصوص، ثمة أكثر من إشارة أخرى أيضاً، يُمكن للمتلقي تلمسها، لكن قبل توضيح تلك الإشارات، نذكر أن ضرورة الشعرية في نص القصة القصيرة جداً، لأنه يوفر لها المجاز المناسب لسد الفراغ أو البياض الذي لم يملأه السرد ذي النفس القصير، فتلك الشعرية وبما توحيه من رموز وكنايات، لاسيما بالتأويل الذي يفرضه التخييل، ومن ثم إغناء النص بالإيحاء الواسع للمفردات القليلة، وأن كان الوجع السوري قد فرض معادله الإبداعي بقصص كثيرة قاربت الحدث دون أن يغرق الكثير منها في مطب المباشرة، أو الواقعية الفجة، بل هي حالات إبداعية سجلت موقفاً وكثفت الحالة المؤلمة بواقعٍ مجاز؛ هو ملء العين دمعة. (طقس السماﺀ تمطر،الهطول مختلف هذه المرة، اللون الأحمر يصبغ المكان، ينظر إلى ساقها المبتورة على بعد خطوة، زخات جديدة تقضي على ماتبقى منه. صادق مجر) من الإشارات أيضاً في تلك النصوص التي تُليت على منبر العاديات في طرطوس، كان ثمة أكثر من اتجاه: من النصوص ما ذهب صوب التراجيديا الخالصة، أو السخرية والتهكم الصرفين، والبعض الآخر ذهب صوب التأمل البعيد، وهذا أمر طبيعي بل ومطلوب طالما نتحدث عن ملتقى بهذا الشمول والاتساع، وكما أن ثمة نصوصاً وقفت لتكون معادلاً إبداعياً لما يجري على مسرح الأحداث السورية، ثمة نصوص أخرى ذهبت لتُشكل حالة حب بمنتهى الشغف والتوق، كما اختلفت النصوص كذلك لجهة التكثيف، فبعض النصوص كانت قصص لا تتعدي بضع كلمات، فيما تجاوزت بعض النصوص الأخرى النصف صفحة. (حرملك أرخت خصلات ستائرها السوداء المكوية، فوق بياض أكتافها المتمردة.. أشعلت سيجارتها بأنفاس فرس جامحة، تغرد خارج الكتاتيب الرثة. أطلقت العنان لجسد اشتاق الرقص على وقع أساورها الفضية، فارتمت عاجزة عن فك عناق ساخن بين خلخالها وطرف السرير. جمانا العامود) الأمر الآخر في نصوص ملتقى الأقصودة هذا، هو أن شخصيات القصة، اقتصرت على الضمائر التي تناوبت بين متصلة تارةً، وحيناً منفصلة، بين أنا بكل حرارة حضورها طوراً، أو هي، أو هو الغائب بكل أعذاره مرةً تالية، ضمائر؛ هي نحن وهم، وأنتم، وكلنا؛ أشمل من كلّ الأسماء، لتُسرد شخصيات بمختلف مشاعرها وأحاسيسها من فرح وغضب وحزن نبيل، فمن المؤكد، إن القصة القصيرة تقدم نفسها ببريق خاطف، تتداخل عدة أزمنة، وعدة فضاءات، ودلالات، وتتعانق البداية، والعقدة، والنهاية للحدث، ثم وفي الختام، تلقي الحصى الأخيرة، التي تثير في الماء الراكد دوائر عدة، كما تثيرها في النفس اللاهثة وراءها. (اختيار حقلهُ المُتاخم للطريق العام؛ جعل محصولهُ عرضةً لسرقة نساء الحي. شدد الحراسة ليلاً بلا جدوى. كتب لائحةً بالخط العريض: سأغتصب كلّ من أراها في حقلي، ومنذ ذلك اليوم، والنسوة يسرقن في وضحِ النهار. غاندا محمد) من نافل القول أيضاً، أن نذكر أن عدداً من النصوص لا يُستهان به ذهب بعيداً عن جنس الأقصودة، لكن قلما نجد قاصاً لم يُقاربها في أحدى قصصه، وهذا أن دلّ على شيء، فإنما يدل على وعي كتابها بمعايير هذا الجنس الإبداعي الموغل في ريادته، وأن كان بداية حضوره الأبهى في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، ومن ثم عدم التقييد بـ «الشروط» التي كتبها لها «مقعدوها» هؤلاء الذين ظنوا أنهم اكتشفوا الغابات البكر والسهول العذراء، وإذ بهم يسيرون على ذات الدروب التي مشى عليها أسلافهم، وإن كان الماشون الأوائل هم من القلة بحيث بقيت الدروب ناحلة لفترة طويلة، حتى جاء من عبدّها بالكثير من التنسيق والجمال حتى أخذت مشيتها التامة على سكتها الصحيحة. (حلبات الكلام تحلّق الشعراء ذات يباب فوق الوردة، ونثروا فوقها قصائد العشق والوفاء.. تفننوا بصور السيلفي الضاحكة.. لكنهم لم يعرفوا أن الوردة لم تكن تحتاج لمقاومة ذبولها سوى قطرة ماء. هيفاء فويتي) ونختم؛ أن ما اعتمد عليه من معايير في كتابة تلك النصوص، أقول معايير، وليست شروطاً كانت في أولاً: لابد أن تحتوي القصة القصيرة جداً معظم ما تحتويه بقية الأجناس الأدبية الأخرى من معايير فنية من تكثيف وإيحاء وجرأة وقصصية «حكائية» .. ثانياً: أن تقول ما يُدهش لاسيما في الخواتيم التي لابد أن تكون «صادمة» بشكل غير متوقع. ثالثاُ وأخيراً: أن يتم كل ذلك في أقل عدد من الكلمات، وهذا شرط لازم، لكنه غير كافٍ إذا لم يتحقق الشرطان الأوليان. (انتظار أصوات أقدام تقترب ببطء، استعددتُ لأفتح الباب، كل شيء نظيف مرتب، وجمل، وأنا ؟ نظرت في المرآة للمرة الأخيرة، صوت الأقدام يبتعد، لا لا مازال يقترب.. مضى النهار.. مضى الليل، مازلت أصوات الأقدام على الدرج، أمام باب بيتي، اسمعها تأتي، واسمعها تبتعد. وأنا مازلت انتظر أن يرن الجرس، هذا الجرس اللعين المُعطل. زينب حيدر). |
|