تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مهارة التفاصيل

معاً على الطريق
الأربعاء 18-5-2016
أنيسة عبود

ربما كانت التفاصيل هي التي توجعنا وتدلنا على الرموز التي تغلق النص المروي أو المكتوب ..ولهذا ينشط الكاتب في تفاصيل عمله الإبداعي الذي قد يبنى على حادثة بسيطة يلتقطها من الحياة ..لكن , حتى التقاط التفاصيل تحتاج إلى مهارة شديدة ورؤيا ثاقبة،

وبما أن الألم السوري مليء بالتفاصيل فقد تضيع هذه التفاصيل إذا لم نحسن التقاطها ..وقد يعجز العقل البشري عن استيعابها والاحتفاظ بها فتضيع في أكوام من الحكايات والمرويات الزائفة أو المبالغ فيها أو الإخبار السريع عنها السريعة ..كأن تقول ماتت فاطمة التي كانت تسكن جنوب قرية الزارة ، أو ضاع ابنها محمود .‏

أو تقول ..سقط في حلب عدة شهداء نتيجة القصف الحاقد للمسلحين ..أو تهدم بيت جيراننا في حمص ..هنا قد تنتهي الحكاية ..وتبدأ حكاية أخرى مماثلة لتعبر الذاكرة وتكدس مع آلاف الحكايات التي نسمعها كل يوم، ولكثرة ما نسمع تصير أوجاع الناس حكاية للحديث , وتمضية الوقت لأن الوقت يمر طويلاً على السوريين المكلومين في حلب ودمشق وحمص وباقي المحافظات ..وأحياناً تتشابه الروايات وتختلط ببعضها فيصعب التفريق بين الواحدة والأخرى لكنها جميعاً هي تفاصيل الحكاية السورية .‏

وإذ نعود لتفاصيل فاطمة نجد أنها كانت ترضع طفلها محمود ..وكانت تنام بسلام في بيتها حيث أن زوجها استشهد في مجزرة جسر الشغور ..لم تكن فاطمة تتوقع أن يدخل المتوحشون فجراً ويغتصبوها ثم يقطعوا ثدييها ويخطفوا ابنها ..قيل إن محمود أحرق ..وقيل لم يمت لأن صوت الطفل مازال يترجعّ في سماء القرية ..وقيل أن بيوتاً دمرت على رؤوس أصحابها ..وان أبو وضاح جرّوه وراء سيارة ثم قطعّوه حياً ورموا أشلاءه على مفارق القرية ..أما الطفلة عائشة التي كانت تزور جدتها في حلب فقد كانت تأكل سندويشة مربى الورد وهي في الطريق إلى امها لكن الطفلة لم تكمل السندويشة ..لقد وجدوا السندويشة على الرصيف ولم يجدوا الفتاة ..قيل إنهم شاهدوها على إحدى الفضائيات الدموية مضمدة وهي تنام في سرير تركي، فهل اخذوا كليتها أم اخذوا كبدها بعد أن جرّدوها من طفولتها وعذريتها وأسرتها ؟‏

كم طفلة مثل عائشة وكم طفل مثل محمود ؟‏

وكم من سندويشات المربى مرمية على أرصفة سوريا ولم يكملها الأطفال ؟‏

وعلى ذكر مربى الورد والتفاصيل فقد أرسلت لي الباحثة والأستاذة الجامعية زبيدة القاضي عبّوة من مربى الورد الحلبي عبر سيارة قادمة من حلب الحبيبة كون هذه الصديقة لم تغادر حلب على الرغم من الجراح والموت وإغراءات الهجرة ..والمسألة ليست مسألة كمية من المربى ..بل هي التفاصيل التي أعطت هذا المربى أهمية وقيمة لا تقدر بثمن ..لقد أعادتني هدية صديقتي إلى شوارع حلب وإلى سلال الورد التي يحملها الباعة فتعبق رائحتها وتلتصق بالعابرين والزائرين فلا تتركهم حتى لو غادروا حلب، لقد تذكرت الأسواق العتيقة وقمرها الذي يشبه قمر جبلة .تخيلت القلعة الشامخة والخيول رابضة حولها والمتنبي يلقي الشعر غير آبه بالروم ولا بما خلفهم من روم ..طفرت دمعتي لأني أعرف كم يعاني أهلنا الصامدون في حلب . لاحت لي وجوه الأصدقاء والندوات الأدبية والموسيقية ..وتذكرت آخر زيارة لي إلى تلك المدينة الحبيبة حيث كنت في زيارة لمركز بحوث القطن ..ثم عرجت على بعض المحطات البحثية الزراعية التي نهبها الغوغاء وقضوا مخابرها وحقولها .‏

لكن , وبرغم الجراح و القتل والتدمير يستمر الحلبيون في زراعة الورد وبث العطر وصناعة المربى وإرساله إلى الأصدقاء في كل أنحاء سورية ليقولوا هانحن ..صامدون ..لا نغير عاداتنا ولا مبادئنا ..طالما الجيش العربي السوري يحرسنا ..فنحن منه وهو منا ..نزرع الورد والحب والصمود ليكون الورد تاجاً على رؤوس الأبطال والشرفاء .‏

وإذا كان مربى الورد قد اعادني إلى حلب ..فإن مجزرة قرية الزارة في ريف حماة الجنوبي أعادتني إلى حقول القمح واللوز والعاصي ..وجعلتني أسترجع مجزرة – قرية معان والحولة والمبعوجة ..وجسر صوران حيث رميت أجساد الشهداء في نهر العاصي .فتلون العاصي واختلط الدم بدموع ديك الجن ..تقلّبت الأزمنة والمواجع وأصبت بحزن شديد .فكان لابد من فنجان قهوة شامية مع قليل من مربى ورد حلب لأهدا وأكتب بخطّ عريض ..سوريا وطني ..وأهلها أهلي ..وأنا كلّي شوق إليك .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية