تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الغافلون والمستغفلون

متابعات سياسية
الأحد 6-9-2015
عبد الرحمن غنيم

« يا غافل لك الله !! » . عبارة اعتاد الناس ترديدها كلما وقع أحدهم في مطبًّ وفوجئ بمصيبة كان بوسعه تداركها لولا الغفلة . والغافلون في هذه الأيام كثيرون , ذلك أن الغفلة لم تعد مجرد ظاهرة إنسانية طبيعية , وإنما تحولت الى ظاهرة مصنّعة , أو بتعبير آخر الى استغفال مقصود . وحين يكون الأمر كذلك , فإن الغافلين يتحوّلون الى ضحايا للاستغفال , ويؤخذون من حيث لم يحتسبوا .

قد يتصوّر البعض أن الغفلة تعبر عن سلوك سلبي انطوائي تجاه الأحداث . وهذا ليس صحيحاً البتة . فهناك غافلون يحملون السلاح ويفسدون في الأرض ويعبثون . وهناك غافلون باتوا يوصلون الليل بالنهار في إدارة الإفساد حيث يسلحون ويدرّبون ويمولون ويوجهون . وهناك غافلون زيّن لهم الشيطان أعمالهم وظنوا أنهم بانخراطهم في تنفيذ ما طلبه منهم رابحون أو مهتدون . وهناك بطبيعة الحال غافلون نائمون تركوا مصائرهم للأقدار , ولا يفكرون بمواجهة الأخطار , أو الانخراط في أداء دور إيجابي من الأدوار .‏

إن المشكلة الأكبر بالنسبة للغافلين هي عدم معرفتهم للعدو الحقيقي , ولما يدبره لهم هذا العدو , وللكيفية التي يريد بها هذا العدو تحقيق غاياته .‏

قد يقول البعض : كيف لا نعرف العدو الحقيقي ونحن نواجهه عملياً على أرض الميدان ؟ .‏

ونحن نقول : إن وراء هذا العدو عدوّاً أقوى منه قائماً على تسخيره , ووراء هذا العدو الأقوى منه عدو آخر أشدّ بأساً .. وهكذا حتى نصل في نهاية المطاف الى ذلك العدو الذي يمسك بأوراق الصراع وأدواته ويسخرها لحسابه .‏

كثيرون عندنا يحاولون تفسير ما يجري . يجمعون ويطرحون ويقسمون ويضربون ويحسبون . يتشاءمون تارة وفي أخرى يتفاءلون . ولكننا نجدهم دائماً عن العدو الرئيسي يغفلون .‏

إنهم يرون الإرهاب والإرهابيين , ويرون الأتراك والسعوديين والقطريين , ويرون عبث الأمريكيين . ولكنهم حين يصلون الى العدو الصهيوني يستصغرون شأنه , فإما أن يغيّبوا اسمه كلياً وكأنه لا وجود له , أو أن يصوّروه ضعيفاً هشاً عاجزاً كل ما يتمناه أن يحتفظ بسلته بلا عنب , وإما أن يزعموا أن ما يسعى إليه الأمريكي وأذنابه في المنطقة هو إيجاد أوضاع تضمن الأمن والسلام لإسرائيل ولا شيء غير ذلك , أو أن السعي لتقسيم المنطقة الى كيانات طائفية ومذهبية غايته إعطاء المشروعية لوجود إسرائيل اليهودية بين الكيانات الأخرى .‏

إنهم قد يتكلمون عن حسابات أردوغان وتابعيه من جماعة الإخوان , أو عن حسابات آل سعود , أو عن حسابات الأمريكان , ولكنهم يستخفّون بحسابات الصهاينة اليهود الى حدّ وضعهم في بئر النسيان . ومن يفعل ذلك هم حتماً رغم كل حساباتهم غافلون .‏

إن منطق العقل يقول إن حسابات الأمريكي في بلادنا تحكمها حسابات الصهيوني وإن حسابات أتباع الأمريكي بالتالي تحكمها حسابات الصهيوني , وأنه لو كان ما يريده الصهاينة هو العيش مع الآخرين في المنطقة بسلام , ولو كان الصهاينة مأزومين خائفين عاجزين , لكانوا قد قبلوا بمبادرة السلام العربية السعودية ذات الصياغة الأمريكية الصهيونية المخادعة التي هي في حد ذاتها مثال من أمثلة الاستغفال .‏

إن ما يريده الصهيوني المدجّج بالأسلحة حتى الأسنان , والذي يمتلك كل أسلحة الدمار الشامل , هو في هذه المرحلة , يتمثل في تخليصه من شبح المنظومات الصاروخية لدى محور المقاومة . وبالتالي , فإن حساباته الواسعة منها والضيقة تنصب على تخليصه من القدرات الدفاعية لسورية وإيران بعد أن سعى للتخلص من قدرات العراق الدفاعية عبر الاحتلال الأمريكي للعراق . فما الذي تفعله أميركا وأتباعها الآن ؟‏

ألا يتلخص الجهد الأميركي في استهداف سوريا وإيران وقوى المقاومة الحليفة لهما ؟‏

هل يتغيّر جوهر الاستهداف لكون الأدوات المستخدمة فيه تتمثل في العصابات الإرهابية التكفيرية الوهابية المفسدة في الأرض نيابة عن جيوش أمريكا وأتباعها أو في دفع بعض دول مجلس التعاون الخليجي الى غزو اليمن مدّعين مواجهة إيران ؟‏

دعونا نطرح السؤال البسيط التالي : أيهما أفضل بالنسبة لأمريكا أن تحتل أمريكا المنطقة وتسلمها لإسرائيل مثلما فعل الاستعمار البريطاني لفلسطين أو أن تختلق أوضاعاً في المنطقة تمكن إسرائيل من احتلال الأرض الواقعة بين الفرات والنيل دون أن تدفع من دماء اليهود الصهاينة ثمن الحرب ؟.‏

إنّ تمكين الإرهابيين في المرحلة الأولى يعني تمكين الإسرائيليين في المرحلة الثانية والأخيرة .‏

من هنا فإن حرب الإرهابيين التكفيريين وشركائهم الآخرين , وإن أدارها الأمريكي وعملاؤه في المنطقة , هي في جوهرها الفعلي حرب إسرائيل على العرب والمسلمين . ولا تهم بعد ذلك تلك الحسابات الخاصة التي تحكم سلوك الإرهابيين أو سلوك حكومة أردوغان أو سلوك حكام السعودية وقطر أو سلوك جماعة الإخوان . فكل هذه الحسابات الخاصة بإدراجها ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد هي أمنيات يمنّي بها الشيطان الصهيوني أتباعه مباشرة أو من خلال الشيطان الأمريكي المتحالف معه . ثم إن المنطق العقلي يقول بأنه حين تكون الحسابات في جوهرها حسابات أطماع فإن الشيطان يستطيع أن يوفق بين هذه الأطماع , وأن ينسّق أدوار الطامعين ليصل الصهيوني الى كل مبتغاه وليصل أعوانه الآخرون الى بعض ما يبتغون . فالصهيوني في نهاية المطاف بحاجة الى عملاء يقيم معهم ما يزعم أنها أحلاف . وأفضل العملاء أو الحلفاء بالنسبة له هم من أسهموا بالفعل في تنفيذ مخططه وخاضوا وأداروا الحرب لحسابه .‏

إن أكثر الأطراف غفلةً في هذه القصة هم في الواقع أولئك المنخرطون في الجماعات الإرهابية التكفيرية . فهؤلاء مطلوبٌ منهم أن يقاتلوا وأن يفسدوا في الأرض على أمل إقامة إماراتهم أو خلافتهم الإسلامية , ولكن ما يفعلونه في الواقع هو أنهم ينوبون عن الجنود الأمريكيين والإسرائيليين طالما أن الغاية الفعلية من وراء ما يفعلون هي نشر الفوضى . فإذا ما نجحوا في نشر الفوضى , وتقويض الأنظمة الشرعية , وتدمير القدرات الدفاعية , وظنوا أنهم وصلوا الى بغيتهم في إقامة نواة دولتهم , وراحوا يمارسون الإفساد في الأرض ضد الآخرين وخاصة من الأوروبيين , خرج الإسرائيلي بكل ما لديه من قوة ومن أسلحة – بما فيها أسلحة الدمار الشامل – لينقض عليهم بذريعة تخليص العالم من داء الإرهاب المستشري الذي يكون خطره قد بلغ الأوج , وإنجاز ما فشل في إنجازه حتى التحالف الذي تقوده أمريكا وسط تصفيق العالم الغافل عن رؤية حقيقة ما حدث ويحدث .‏

يوم يحدث هذا سيكتشف من تكتب له النجاة من الإرهابيين أنهم كانوا حقاً مغفلين مستغفلين غافلين . فهم لم يحسبوا حساب هذا العدو , بل اطمأنوا إليه وخدعوا بمساعدته لهم , وكأنما هي مساعدة مجانية أو غفلة منه عن دلالة منطقهم القائل باستهداف العدو القريب قبل العدو البعيد , فإذا ما مكنهم من العدو القريب انقلبوا عليه , بينما هو غافل عما يبيتون له !!. وسيكتشف هؤلاء أن أدوات القوة التي وضعها هذا العدو بين أيديهم لممارسة الإفساد في الأرض , ومنها أجهزة الاتصال المتطورة , كانت بمثابة الألغام بين أيديهم لتدل العدو على أماكن تواجدهم ومواطئ أقدامهم فيجهز عليهم .‏

يومها سيكتشف الإرهابيون أنهم كانوا أكثر خلق الله غفلة . ولكن بعد أن يكون اكتشاف هذه الحقيقة غير ذات مغزى .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية