تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بحر الآثار ..جبرائيــــل ســــــعادة

ثقافة
الثلاثاء 15-5-2012
سجيع قرقماز

«أصنف نفسي كمواطن يحب بلاده، ويدافع عن مصلحتها بأي شكل، أنا لاأهتم بالخطابات والكلمات، مايهمني من أي شخص، ومن أي حزب هو الفاتورة التي يقدمها للتاريخ، لأنني أنا شخصيا ً مؤرخ».

جبرائيل سعادة‏

رحل- كما الكبار- بصمت، لم يترك ضجيجا ً لافي موته، ولافي جنازته، رحل كالنحلة (التي كان الأوغاريتي من أمثاله يؤمنون أن الروح تئز مثلها عندما تغادر الجسد).‏

رحل منذ خمسة عشر عاما، رافقه سعد الله ونوس في ليلة النكسة العربية نفسها، وذهبا ليقدما تقريرهما النهائي.‏

كان جبرائيل سعادة (كابي)، يحاول التفوق على نفسه، هدم كنيسة، و بنى مكانها الثانوية الوطنية الأرثوذكسية (ماتزال قائمة ً حتى اليوم)، بدأ يتعلم الموسيقا، واهتم بالأدب قراءة ً وكتابة ً، وهذا ما قاده مصادفة ً إلى أوغاريت، فقد كان يبحث في إحدى دور بيع الكتب في باريس عن كتاب ٍ ما عندما وقع نظره على صفحات ٍ تحكي عن موقع أثري شمال اللاذقية، وكانت البداية مع أوغاريت كتابة ً واهتماماً.‏

لم يكن طريق كابي معبدا ً فمنذ البداية هوجم، حتى عندما بنى المدرسة كتب عنه الصحفي (لاذع اللسان) نجيب رويحة عنوانا ً تكرر في صحيفة آل رويحة المحلية: الولد ولد لو عمر مدرسة.‏

ورغم (نهفاته) مع الآخرين كان الآخرون يكنون الاحترام الكبير له، رغم مخالفتهم الرأي له، وبعضهم لم يحمل نفسه عناء الرد على نهفاته أو انتقاداته الكبيرة لهم، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، ورغم أكثر من مقال ومحاضرة، وكتابة في الصحف (ضد عبد الوهاب) فإن رأي كابي لم يكن إلا شخصيا ً، فقد أحب طرب عبد الوهاب وموسيقاه، ولاتستغربوا من هذا الموسوعي في آخر أيامه، أنه كان معجبا ً بشكل ٍ كبير بالمطرب رامي عياش وأغنيته (بغنيلا وبدقلا، وغير بحبك ما بقلا).‏

قبل وفاته بأيام، وكان فاقدا ً للنطق، استمع إلى حفل ٍ فني ٍ للفرقة التي كان مسؤولا ً عنها، وتضايق مرتين معلنا ً ذلك بيديه، أمام مدير الفرقة، ليؤكد أن حسه مازال سليما ً.‏

وقبل أيام حاول عبد القادر هلال نثر الأمل في نفسه، احتضنه مودعا ً (وكانت الأخيرة): خلي إيمانك بالله كبير يا أستاذ.‏

استجمع الأستاذ كل ما بقي لديه، وقالها متقطعة ً للماركسي المعروف: قو.. ل.. لحالك.‏

هذا هو الجميل كابي الذي كان مصرا ً أن يستكمل دراسة أغاني و موسيقا اللاذقية، فالقسم الذي أنجزه ليس كافيا ً، وهو وحيد الجانب، وكما يقول:‏

بدون «دراسة آل العجان حول الجزء الآخر من المدينة فإن دراستي لن تكتمل»، ولم تكتمل، كما لم يصدر، ويبدو لن يصدر آخر جهدٍ فكري ٍ تاريخي ٍ له حول «أوغاريت ومملكتها» الذي تركه بأكثر من ألف وثلاثمائة صفحة، بين يدي ابنة أخته (د. ليلى بدر).‏

ولن ينفعه ندمه على ترك مكتبته لجامعة تشرين، كما صرح لفاطمة داود قبل وفاته، ولن يسمع تهجمات منذر المصري ومغالطاته حول حياته.‏

اللاذقية، تلك القرية الكبيرة أحبها كابي وأحبته، غادرها باكرا ً تاركا ً إرثا ً جميلا ً من التاريخ والآثار، من الشعر والقصة، ومن الألحان الجميلة التي لم يقدر لها أن تنتشر رغم ماساهم به كابي من انتشار ٍ لأغاني اللاذقية وغيرها، ورغم ما قدم من مساهمات ٍ لم تكن صورة ً حقيقية عن المستوى الفكري الكبير لكابي.‏

كتبت في رثائه منذ خمسة عشر عاما ً:‏

«قال عنه حنا مينة: في اللاذقية بحران بحر الماء وبحر الآثار».‏

وأقول له اليوم:‏

ستبقى بحرا ً للآثار مجاورا ً للمتوسط‏

يسمع نداءه الخفي‏

وتلتقي وشوشات روحك مع وشوشات موجه‏

في رحلة ٍ أوغاريتية الأصل، لاذقانية الروح‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية