|
منوعات كان ذلك في نهار مشمس من شهر تشرين الأول عام 1973 وقد مر على بداية الحرب بضعة أيام مثقلة بالأحداث، كانت عمتي المقيمة في الطابق الأخير من بناء على سفح قاسيون قد غادرت بيتها بعد أن التحق زوجها الضابط بقطعته العسكرية، وأقامت عندنا مؤقتاً مع طفلتيها في طابق يتوسط البناء ذاته، وفي ذلك اليوم احتاجت لجلب بعض الأشياء من بيتها فرافقتها إليه ومعنا طفلتاها الصغيرتان وشقيقتي التي تقاربهما عمراً، وريثما تنجز ما جاءت لأجله أغرتنا شرفة البيت الفسيحة المطلة على المدينة بالحضور إليها. كانت دمشق -كعهدها دائماً- تكتسي بالوقار والجمال، وثمة هدوء آمن رغم زمن الحرب تزينه أصوات العصافير، وهديل الحمام، إلى أن سبق أربع طائرات حربية هديرها الذي يجذب العيون نحو السماء.. كانت تطير خلف بعضها بعضاً في صف واحد قادمة من شرق قاسيون. لوهلة اعتقدتها طائرات سورية من التي أحفظ شكلها جيداً، كمعظم أبناء جيلي، لكن حين لحظت الجناحين الخلفيين المائلين، صرخت دون إرادتي: (فانتوم)..ولم أنته من ذكر الاسم المشؤوم حتى كانت الطائرات العدوة الأربع، وقد صارت فوق البناء الذي أصبح فيما بعد فندق الشام، تفتح خزانات الموت لتسقط من كل منها ثماني قنابل سوداء مرعبة. بردة فعل فزعة حملت الطفلات الثلاث إلى داخل المنزل، فقد خيل لي أن إحدى الطائرات تتجه نحونا، ولما عدت إلى الشرفة شاهدت دخاناً أسود كثيفاً يتصاعد من غير مكان في قلب المدينة إلى الغرب من بناء فندق الشام، أما في الشوارع التي تلقت قنابل الموت فقد كان المشهد مفزعاً: دمرت إحدى القنابل مبنى نقابة الأطباء في شارع الجلاء (أبي رمانة) ولم تبق من البناء، الذي كان يضم المركز الثقافي السوفييتي أيضاً، سوى غرفة المصعد، وعلى بعد بضعة أمتار باتجاه الغرب أحالت القنابل الإسرائيلية بضعة مبان سكنية إلى أكوام من الرماد، وكذلك كان حال ساحة الأمويين، على حين حمت العناية الإلهية مبنى الإذاعة و التلفزيون ذلك أن القنابل التي كانت تستهدفه سقطت إحداها على غرفة خشبية خالية، بينما سقطت الثانية في نهر بردى ولم تنفجر. مشهد مرعب، لكنه لم يكن أكثر رعباً من لحظة رؤية القنابل وهي تسقط من جوف طائرات الموت..اللحظة التي ظلت صورتها تحضر في ذاكرتي بين حين وآخر، وأحدثها صباح الخميس الماضي حين هز التفجيران المروعان صباح دمشق، فبعد دقائق من حدوثهما نشرت ابنة عمتي في صفحتها على (الفيسبوك) صورة التقطتها من شرفة منزلها للدخان الكثيف المتصاعد، وللمصادفة فقد بدا من خلف فندق الشام. كانت المقارنة تعقد نفسها من غير وسيط لتخلص إلى القول إن العدو هو ذاته، والخلاف الوحيد أنه في المرة السابقة جاء بطائرات حربية، وفي هذه المرة بسيارات مفخخة. |
|