تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ســـــــورية الجميلــــــــة.. رسائل الحب الستيني (72)

ثقافة
الثلاثاء 7-4-2009
أســــــعد عبــــــود

هل تأخرت عليه..؟!

لم يحرجني هذا السؤال يوماً فقد سقطت حسابات الزمن من ذهنه، يعيش نشوة دائمة، يضحك كثيراً حتى تظنه أسعد الخلق.. ويبكي إن توفر المحرض ليبدو منكوباً بغيره..‏

حدثته عن أبي ميهوب..‏

قال:‏

- هل من تشابه بيننا..؟!‏

- نعم..‏

- ماهو؟!‏

- كلاكما شاعر..‏

- هل يكتب..؟!‏

- بل هو لا يقرأ ولا يكتب.. يعيش فقط..‏

صعب عليّ كثيراً أن أتخيله إلا ضاحكاً.. حتى وأنا أرى دموعه حزناً على فراق صديق أو رفيق.. يوم زرته في المشفى بعد أن خاض جولته الأولى مع السرطان، لم أكن أمازحه حيث قلت:‏

- هيا.. سنسهر رأس السنة معاً..‏

ابتسم دون تعليق.. خفق قلبي وخفت.. انزويت خلف خوفي ولم أبح لأحد حتى جاءني الهاتف..‏

قالت لي إمرأة عبر الهاتف تعزيني بوفاته:‏

< أتتذكر..؟!‏

- ماذا..؟!‏

< أتتذكر حين قلت لي: إنه يسرق الزمن..‏

- كان ذلك أيام زمان..‏

< لا... لا.. كان لديه إحساس أنه لن يتعدى سن الشباب..‏

حاولت أن أصلح ماقلته.. فوصفته بالمصارع..‏

< مصارع.. هو مصارع..!‏

- هو بطل مصارعة.. على علمي وكنت حكماً في بعض الحلبات إنه هزم الوقت والحسابات والحب.. وانتصر فيها كلها..‏

لم يشأ أن يغوص بعيداً في الحياة.. لأنه كشفها..‏

< ما الحياة..؟‏

نعيش.. نأكل .. نتعلم.. نحب.. نخلّف.. نكتب.. نعمر بيتاً..‏

كان نشوان وكنا نعبر معاً ليل الصالحية بدمشق..‏

- الحياة أن تقتنع بما فعلت.. هل أنت كذلك..‏

< جداً..‏

- أحسدك..‏

< لن تعتب الحياة عليّ..‏

يومها لم أفهم سرّ تلك الفاتورة التي يقدمها للحياة.. هل وجب عليّ أن أفهم أنه يشعر بحدود عمره..؟!‏

لماذا لم أنتبه؟!‏

تحديه المستمر.. معركته التي لاتنتهي.. فرضياته وقسره للمنطق وانتصاره عليه بمنطقه..‏

عاملني بشكل خاص.. دائماً صعب عليه أن أخاصمه حين تحرجني تصرفاته.. أن يطرد كاتباً مهماً من غرفته.. بل أكثر من ذلك.. طرده مع «كفين»..‏

حزنت كثيراً.. اتهمته بالسقوط والبربرية.. لم يطل الخصام يوم أصر عليّ أن أمرّ به في غرفته في جادة الشهداء بحي الصالحية.‏

- ماذا يريد؟‏

حين فتح الباب استقبلني وجهه الضاحك ونكتة مستهلكة يرويها هو فتبدو من حداثتها أنه ألفها للتو.. نزلنا الدرج إلى قبوه الساحر.. كان الكاتب الذي طرده منذ يومين على طاولته وأمامه الكأس..! ضحك من أعماقه وهو يتابع ردة فعلي!! بصراحة.. سخر منّي.. فقد وضعني في موقع الملكي أكثر من الملك.‏

تحدثنا كثيراً ومراراً عن الفقر.. بطبيعتي المنظمة أسديت له النصح فرده لي.. أخرج من جيبه قطعة نقدية، أعتقد أنها 25 ليرة ورقية.. مزقها ورماها في الشارع ووطئ فتاتها بقدمه.. قال:‏

< ذلّ «المصاري» كي لا تذلك..‏

في تفاصيل نتائج المعركة أنه كثيراً ما وقف مدهوشاً أمام أكوام المال.. لكن خزائن الأرض كلها بدت مكسورة أمامه..‏

ماذا يفعل المال لإنسان صنع من حب وضحكة وكأس..‏

- سيرفضك العالم يوماً.‏

< أنا الذي أرفضه.. أرفسه بقدمي..‏

- لكن الحياة لا ترحم..‏

< هذا العالم يحتاج الى حراثة كي ينبت.. كلي رحمة بالحياة..‏

- وغداً..‏

< ليأت الطوفان.. خذوا الدنيا بسهولة.. ما الذي سيحصل.. كل النساء مرآة.. كل العالم غرفة.. كل الطعام وجبة..‏

- والحب..‏

< كل الدنيا حب..‏

مع زوجة وادعة وطفلين جميلين ومنزل هادئ، أسرة جميلة بمعنى الكلمة لم أعد أميز هل نحن في ضيافتهم أم هم في ضيافتنا.. بقدر ما أسعدني بقدر ما كان سؤال يجول في أعماقي..‏

هذا الصعلوك النمرود المتشرد المخرمش السكير.. الذي باع الحياة كلها، كيف صنع ذلك كله؟! يجب أن نلتقي لقاء عازبين..‏

- قل لي عن الزواج..‏

< وقع عندما جاء موعده..!‏

- كيف جاء موعده؟‏

< أحببت فتزوجت..‏

- أول مرة تحب؟!‏

< أحببت امرأة لأتزوجها‏

- وماذا بعد؟!‏

< ليس هناك بعد.. ولم يكن قبل.. هو اليوم‏

حين عاتبته إحدى صديقاته وقد ضبطته متلبساً بأخرى.. قال لها:‏

< أنخسر بعضنا من أجل بنت!؟‏

ضحكنا كثيراً دون رحمة بنكبة الصديقة المخدوعة.. ضحك معنا.. ضحك أكثر منّا.. لكن..‏

كان جدياً..‏

الصداقة أم الحب..؟!‏

حبيبتي تعرف أنني أرى الأولى اسمى.. لكن.. تكتمل الدارة إن اجتمعا..‏

بعد فوات الأوان، زرت البيت الذي بناه في قريته الجميلة، كل شيء جميل.. الأرملة الشابة وابنته وابنه.. كثير من الحب.. كثير من الصداقة.. كثير من الحياة..‏

بعد فوات الأوان:‏

لم يكن عدلاً أن ينتصب السرطان خصماً له في معركته..‏

السرطان وحده هزمه وهزمني.‏

فقدت موقعي كحكم ينصح أحياناً.. يعترض أحياناً.. يشمت أحياناً.. يقف في الصف الآخر.. ويتمنى النصر للحياة في صورة شاعر يتحدى الحياة.‏

a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية