تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إلى من يهمه الأمر.. رحلة في البال

ثقافة
الجمعة 8-7-2011
يوسف المحمود

وإذا لم يعد رأس جبل يظهر من فوقنا. ولا من أرض، كيفما كانت، قد لمحت، بعد أسفل منا. إنما شعرنا بالباص يقف، على السكت. كما لو كان قد دخل أرضاً محرمة، بسبب ما. أو على البداهة، هي على كثير من المهابة والاحترام!

حتى الطالبات المبروعات، يزعقن دلعاً للقة كوع غير متزنة، أو صياح الإعجاب بالضياع بين الأكواع. يتفسح بعضها عن بعض لطول المسافة، تارة، أو يقصر بعضها عن بعض، إيذاناً بنهاية قريبة، تارة أخرى!‏

الباص لم يشخر بدعسة البنزين الأخيرة القوية. علامة الوقوف المعتادة، في عرف السائق الماهر، مؤكداً أنه وقف سالماً، وجاهز سالماً. ولاهو، الباص مال إلى جانب، وارتد إلى جانب يتوازن صحيحاً. بل وقف كهامد خشوعاً. والسائق فتح الباب بقول: حمد الله على السلامة. يصدقها أو لا يكاد يصدفها، هو نفسه، بالباص عادة!‏

الطالبات بالمقاعد الأمامية، إلى جانب الدكتورين الأميركيين، مراعاة أو تقديراً. الطالبات وقفن، حيث نزلن، كمتوجسات بوقوفهن. لا يكدن يأخذن نفساً!‏

الدكتور ويست قال «فاين» أو كلمة غيرها يشد على يد السائق. أنا مازلت لا أفهم النطق بالإنكليزية الأميركانية. أما امرأته، فقد باغتت السائق، بما كانت تضحك للقّة كل كوع مخيفة، بقبلة. فرقعت على خده كحبة كبسول مشمسة. الدكتور ووكر، إعجاباً بالسائق. أو بوادي الحمة. ردد، فاين/ فاين! كما لو كان يستكبر السائق أو وادي الحمة، أول ما نظره، على سورية!‏

التمّ بعضنا إلى بعض قدام الباص، كما خلف مؤخرته لأخذ الصور المستحقة، عاجلاً! وامرأة الدكتور ويست خمسينية، وربما ستينية بطقم الأسنان، لا يكاد يخفى. كانت تزين معصميها، كما بخفة روحها ومرحها، بأسوارتين عريضتين، مما يعرف عند النور الجوالين. ومحفظة يدها، من قشّ الحنطة المزركش، برسوم فلاحية. مما يسمى في السلمية، بالشقال أو النقال، لجني القطن. كانت تضعه بين قدميها، أو إلى جانبها، في الباص. فيعلوا بعلوّ ركبتيها. شاعراً، أو غير شاعر، بزهوها به، كما رؤيت غير مرة في سوق الحميدية. تتداولها بين يديها. أو ترشقه بين كتفيها. كما كان زوجها، يحمل مراجع كل درس لغة، في كيس. يتأرجح بين كتفه وظهره، إلى قعدته، كما يقال عادة، في أم الشعر الطويل. تقوم عن شعر رأسها، إذا قامت وتقعد، على شعر رأسها، إذا قعدت!‏

الطالبات بخاصة، أخذن يذكرن: أسماء حمام البلسم. حمام الريح، وحمام المقلع. فيسير الجمع، باتجاه هذا وذاك وذلك. أما أنا، فلم أجد ألزم لي من نومة، بما وصلنا القنيطرة طلعة الضوء تماماً، في فيء شجرة، في اليوم الثاني، من سنة 1954، كانت أنفع لي من حمام البلسم والريح. رائحة الكبريت، تنفذ من أصابع الرجلين، إلى أطول شعرة من فوق الأذنين. تلفت حولي أكثر من مرة، لأذكر أنني في الحمة السورية، آكل زوادتي - ثلاثة أرغفة تنور شامي. كل رغيف بمكدوستين حمصيتين، تحت شجرة في الحمة!‏

بعدها رحت أتفرج على الحمة، برأس الشجر، زاهياً بالشمس الكانونية الساطعة. لا هواء يلوحها. ولا قزعة غيم تبرقعها، غير رائحة الكبريت، تنسحب من أسفل البطن. تكاد تدور بالرأس، بارتفاع الشجر، وعمق الوادي. بما رجحت، أنه تحت سطح البحر، أول ما خلقت الأشياء قاطبة، من ماء!‏

وتمادى بي الوادي مغرباً، حتى وقفت من خلف مربض مدفع. يظهر رأسه، فوق رأس جندي، يصوب إلى هدف، يرى في القلب، برؤية العين. يدري، أو لايدري، أن سيطلق إلى الهدف مصوباً بالقلب وبالعين معاً..(سيلي).‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية