تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ثنائية التشبيه والتجريد في الفن التشكيلي

ملحق الثقافي
28/3/2006
د.حبـــــيب الراعي

لا شك أن نظرتنا إلى عمل فني تقوم على تصنيف مسبق، يكاد يكون بديهيا وفق ثنائية التجريد والتشبيه،

ولهذا هناك مشروعية للتساؤل حول جدوى الفصل بين التشبيه والتجريد في الفن التشكيلي. وإلى ماذا يرمي مثل هذا الفصل؟ وكيف نشأت هذه الثنائية التي جعلها النقاد ومنظرو الفن ثنائية متضادة، يتأكد ذلك مع تعريف (سوريو) للفن التجريدي بأنه: (هو الفن اللاتشخيصي) أو: (التمثيلي الذي لا يقوم بالتشخيص) (1). إن ضرورة النظر في تلك الإشكالية تأتي بالتوازاي مع إشكالية أخرى تقوم على صعوبة تحديد الكثير من أجناس الإبداع. خاصة في الفن التشكيلي، وتزداد صعوبة الأمر مع ما تشهده أشكال الإبداع التشكيلي من اختلاط واضح فيما بينها، وكذلك مع فنون أخرى كالموسيقا والفيديو. هذه الخبرة في التصنيف تذكرنا بالفترة الأولى لظهور السينما التي أطلق عليها اسم (المسرح) لأنهم رأووا أنها أقرب ما تكون إلى تلك الظاهرة المعروفة مسبقاً. ومما لا شك فيه أن ذلك التحديد يأتي بشكل رئيسي لدواعي تصنيفية أي لا يتعلق الأمر بماهية الفن التشكيلي الذي له شروطه ومعادلاته الخاصة به. إن بداية التنظير لمسألة التجريد في الفن ووضع التعاريف قد بدأت في أوائل القرن العشرين، والتي يشهد تاريخ الفن بأنه الفن الرومانسي قد أسس لهذه السيرورة تواصلاً مع الواقعية والانطباعية، يسجل هنا للانطباعيين الجدد دوراً بارزاً في ذلك وخاصة (بول سيزان) و(فان غوغ) و(غوغان). وفي عودة إلى مفهوم التجريد من خلال التعاريف التي تؤكد مثل تعريف (سوريو) السابق بأن التجريد يأتي كنقيض للتشبيه أو التشخيص، يعرفه (ليون ريغون) بأنه الفن الذي لا يقوم بالتمثيل الظاهري الخارجي للعالم المرئي. وإن أول من استعمل هذا المصطلح باعتباره مفهوماً كان (وانجر) وذلك في أطروحته التي أصدرها في كتاب عام 8091. لم يكن التجريد غائباً عن الممارسات الفنية قبل القرن العشرين مع أنه لم يتبلور كمفهوم وكنظرية قائمة الذات في الفن التشكيلي إلا مع (كاندينسكي) و(موندريان) و(ماليفيتش). كذلك لابد من الانتباه إلى أنه مهما حاولت اللوحة التشبه بالطبيعة وبالواقع المرئي فإنها لا تعدو كونها مجرد محاولة (إيهام) بهذا الواقع، فهي قماشة مسطحة ذات بعدين عليها أصباغ وزيوت،وعملية الإيهام ليست إلا خدعة تتمثل بمحاولة إظهار البعد الثالث المفقود من خلال تقنيات مختلفة أولها المنظور، ومعالجة الألوان قيمياً أي قيم اللون (الفاتح والداكن). ومهما كانت عملية الإيهام متقنة إلا أنها تظل تجريداً لذلك الواقع (أي تجريد الواقع عن واقعه، لأنه أصبح بعد نقله إلى بعدي اللوحة واقعاً جديداً يخضع لواقع العمل الفني وخصوصياته،وليس إلى الواقع المرئي الحقيقي. لهذا يذهب الكثير من الفنانين إلى أنه لا فرق بين وجه إنسان وشكل الدائرة أو بين شجرة وشكل الخرطوم.... بحيث أن التشبيه والتجريد ممارسة تشكيلية واحدة غير قابلة للانفصال. إذن المسألة لا تكمن في الفصل بين التشبيه والتجريد، إنما في علاقة الفنان مع الواقع وموقفه ورؤيته له، ومن هنا يأتي تميز البعض برؤاهم من حيث نوعية تلك العلاقة وطبيعتها، ومن خلال وعيهم بها وبأبعادها وخصوصياتها. ولكن بالمقابل فإن عملية التصنيف تصبح وفقاً لعدم الفصل صعبة فنحن نرى في أكثر الأعمال المصنفة بأنها تجريدية الكثير من الإيحاءات التشبيهية، مثل اللوحات التي تستعمل المفردات الخطية وتستفاد من العلامات والرموز. أو اللوحات التي تعتمد اللمسات العريضة والمختصرة للفرشاة، فهذه اللوحات كلما اقتربنا منها بدت لنا تجريدية حيث تغيب معالمها لتصبح أشكالاً وألواناً مجردة، وكلما ابتعدنا عنها ظهرت ملامح الواقع فيها من خلال اندماج تلك الجزئيات فيها، سواء كانت طبيعة صامتة أو مشهداً معمارياً أو طبيعياً. تتأكد صعوبة مثل هذا التصنيف مع لوحات (أدهم اسماعيل) أو (نعيم اسماعيل) وكذلك (نصير شورى) وحتى (فاتح المدرس). إحالات: (1) Etiemme souriau, vocabulaire desthetique opcite 1999, p8,9. (2) طارق الشريف، الفن التشكيلي في سورية، المنظمة العربية للتربيية والثقافة والعلوم، تونس 7991، ص 94 وص 05. أدهم اسماعيل: ففي لوحاته تضيع ملامح الفصل بين التجريد والتشبيه، وتتعدد الرؤى لهذه الأعمال، ولا تستطيع حتى عناوينها أن تقيد قدرة المشاهد على تنوع القراءة وتعدد التأويلات. وإذا ما شاهدنا لوحته الشهيرة (الحمال).. وبعيداً عن التوصيف الوارد عنها بقلم الأستاذ طارق الشريف (2). فالإنجاز الأهم فيها يتمثل برأينا في أن الفنان بحث في ربط الشكل بوظيفته التشكيلية، وابتعد عن مرجعياته الواقعية مما أدى إلى صياغة لغة تشكيلية جديدة عند هذا الفنان. ابتعد فيها عن المشهد التسجيلي التفصيلي إلى فضاء تشكيلي يقوم على الاختزال المجرد للواقع في دلالاته المباشرة في شبكة خطية لا نهائية وتسطيح لوني للأشكال المتداخلة في جملة العلاقات المركبة للوحة. نصير شورى: كذلك تصنيع معالم المنظر الطبيعي الانطباعي في لوحات نصير شورى لصالح تماسك الأشكال والكتل والألوان وفق علاقات واضحة ومتينة في عملية البناء تلك، دون أن يغيب البعد الهندسي للمنظر الطبيعي. ويؤكد (شورى) على القدرة الذهنية العالية في تجريد المنظر الطبيعي دون الإكتراث للمرجعيات الواقعية، معتمداً الإيحاء بدلاً من التصريح المباشر، في تداخل لدوامات الألوان وظلال الرمادية التي تقوم في حركية دائمة. لقد أسس هذان الفنانان دون أن ننسى طبعاً محمود حماد وكذلك نعيم اسماعيل وفاتح المدرس، لغة تشكيلية جديدة أكدت للجيل اللاحق أن مواصفات إدراك المعطى البصري قابلة للتغير ولا تعترف باليقينيات. إذن فالمشكلة تتمثل في طريقة النظر إلى العمل الفني وكذلك في مرجعيات المشاهدة، فيما إذا كانت مسبقة ومغلقة أو أنها منفتحة على الاحتمالات والحرية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية