|
ملحق الثقافي
هل أنت يا آنسة قمطرة هبلاء أم تتهابلين علينا؟ خلصنا من حرف النون وندخل في حرف الراء. ولماذا تصيح هكذا؟ أنا على الخط تماما وقضية نون هذه أم القضايا مثل أم المعارك: ألم تسمع بأم المعراك؟ إذا كنت لم تسمع فعندك نقص في الضمير القومي، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى خطيرة مقدمة على سواها لانها تتعلق بالتضامن الأخوي بين الأشقاء العرب...... الكلمة للدفاع، ألست على الخط يا دفاع؟ قال محامي الدفاع: لا يا قمطرة أنت الآن لست على الخط خرجت من النون إلى السياسة وهذا جرم يعاقب عليه القانون لانه ممنوع في الوطن العربي الكبير الكلام في السياسة خصوصا لأمثالنا! وما هو المسموح يا دفاع؟ الكلام على الطبخ والنفخ والانجاب، ولعلمك أقول ليس لدينا ما نطبخه أو ننفخه لأننا على الحصير..... أما الانجاب فحدثي ولا حرج.... إحدى غاباتنا أكبر غاباتنا تعداد سكانها يقرب السبعين مليونا، ولماذا كل هذه الملايين؟ لأجل أم المعارك، هل فهمت، أم أزيدك علما!؟ وقفت دندنة وقالت: بصفتي كنائب عام في هذه المحكمة احتج على ما يجري في هذه المحكمة.. هناك غمز ولمز وتوريات وحتى مع اعترافي بصحة ذلك فإنني أطلب شطبه من محضر الجلسة لانه لا يجوز. تعالت الأصوات: يجوز، ويجوز، ويجوز، نحن نختنق حتما في المدن، فهل نختنق حتما في الغابات أيضا؟ قمطرة على حق.. هناك معارك، وهناك أم المعارك، وهذا ما تقوله الاذاعات والتلفزيونات وحتى الكومبيوتر والانترنت، فلماذا نحرم منه نحن؟ أردفت أصوات أخرى: لاتشطبوا شيئا في محضر الجلسة...لأنه لا شيء يضر إذا لم يشطب، وقد اعترفت دندنة بصفتها الرسمية لأنه لا شيء يضر إذا لم يشطب وقد اعترفت دندنة بصفتها الرسمية أن كل ما قيل صحيح، وهو ينفع الناس، وما ينفع الناس يبقى( أما الزبد فيذهب جفاء) والسلام ختام. قال رئيس المحكمة: ولأن السلام ختام فإني أرفع الجلسة على أن تستأنف بعد ربع ساعة من الآن: بطلب من الأرقش اجتمع عند أجمة بعيدة عن النبع، أربعة أشخاص هم الحكيم بشير، ودندنة وأكرم الرماح والأرقش ليدخنوا ويتداولوا الرأي حول مجريات الجلسة الأولى للمحكمة وما قيل فيها وعنها، والانسجام والنشاز في كل التصرفات التي بدرت عن قمطرة وصقرش، وكذلك الحاضرين الذين حولوا المحاكمة إلى مسرح وبذلك أفقدوا الهيبة التي كان لا بد منها سواء بالنسبة لأعضاء المحكمة أو المتهمين الماثلين في قفص الاتهام أو الدفاع أو سيد القلعة الذي هو الذئب الأسود. رفض الحكيم بشير الكلام قبل السيدة دندنة ممثلة الادعاء التي عبرت عن أسفها لأن الأمور أفلتت من أكرم الرماح رئيس المحكمة الذي لم يعرف كيف يوقف هذه المهرجة التي اسمها قمطرة عند حدها الذي كان ينبغي أن تتعداه، وعن حرف النون وما فيه من ذعر مستتر مكشوف في آن والضحك المعيب الذي لم ينتبه إلى عيبه القضاة فشاركوا فيه. اقترح أكرم الرماح أن يتخلى عن رئاسة المحكمة بسبب فشله في إدارة الجلسة وصبره الزائد عن الحد على قمطرة وثرثرتها وفوق ذلك عدم قدرته على إظهار المهابة، الرصانة، الوقار وإيقاف المسرحية الهزلية التي أرادتها قمطرة وحققت ما أرادت من فحش القول ومن تهجم على الآخرين وأولهم الأرقش الذي بدل أن ينهرها سايرها وقال لها: (صديقتي العزيزة!) فتجرأ الآخرون من الحاضرين بالغمز واللمز والتوريات السياسية التي ستبلغ المسؤولين بغير شك. ابتسم الحكيم بشير وقال: هناك عند البئر كنا نحاكم المذنبين، وهنا عند هذه الأجمة نحاكم أنفسنا، نجلدها إذا صح التعبير أضاف وهو يشعل سيكارة: إنني مع رفض طلب أو اقتراح الزميل أكرم الرماح بالتنحي عن رئاسة المحكمة فالأسباب التي أوردها غير كافية لتحميله المسؤولية التي حملته إياها الزميلة دندنة والضحك الذي لم يستطع ضبط نفسه عنه، لم نستطع نحن أيضا ضبط أنفسنا عنه وكل ما آخذه عليه أنه لم ينتبه إلى مناورات الدفاع وما فيها من تشجيع لقمطرة على الإمعان في غيها بقوله إنها على الخط وفي لب القضية مع كل خروجها عن خط المقاضاة والانسراب بطريقة إبليس من قضية الذئب الأسود إلى القضايا السياسية وأم المعارك والإنجاب الزائد والتصريحات والتلميحات التي ستبلغ أصحابها وتجعلنا في صدام معها.. أليس كذلك يا أرقش؟ أطرق الأرقش عابسا فكأنه الذي عناه الفرزدق بقوله: (يغضي ويغض حياء من مهابته، فما يكلم إلا حين يبتسم) والأرقش الذاهب بعيدا مع تفكيره رفع رأسه وابتسم وهو يدخن إنما من غير أن يتكلم حتى قال له الحكيم بشير: (ألا ترغب في الإدلاء بدلوك يا أرقش؟) قال الأرقش: إنني من يفاعتي وأنا مولع بالمسرح، وهذا اليوم فقط رأيت مسرحا حقيقا فيه المتعة والمعرفة، وفيه إلقاء كلمات الأدوار بجرأة من غير تحضير أو حفظ وهذا جيد جدا لأننا في محكمة ومسرح معا وكان طابع المسرح غالبا لحسن الحظ، قال فيه الجميع ما يريدون قوله في قالب من الكوميديا السوداء التي عرف من يجب أن يعرى وسخرت من الذين يستأهلون السخرية دون حرج أو محاباة، ثم لماذا الحرج والمحاباة؟ هل خوفا على أنفسنا من الذين تناولتهم الألسنة بعد أن لزمت الصمت طويلا وانفك عنها السلك الذي لا يُرى والذي كان يلفها والله إني لمسرور بكل ما حدث، وبكل ما رأيت وسمعت لأننا لسنا قضاة محترفين وليس لدينا ما يؤهلنا قانونيا لهذا الاحتراف لكننا جميعا على السجية نتكلم دون خوف دون تردد دون توجس من أذى يلحق بنا لأنه لم يعد ثمة أذى إلا وألحقوه بنا على مر العقود الطوال... فإذا قيل أن هناك مصالح للأسياد يكلفها القانون أجيب: هنالك أيضا مصالح للعبيد للمستضعفين في الأرض للمعذبين، للفقراء والمساكين يجب أن يكلفها القانون إلا أن هذا القانون غير موجود بعد، وإذا وجد ولو ناقصا عرف الأسياد كيف يلتفون عليه، وكيف يفرغونه من مضمونه.. تسألونني: ألا تخاف؟ وأرد: بلى أخاف لكنني أصمد للخوف وهذه هي الشجاعة وفضحنا لأصحاب القلاع والدور والقصور، هي الشجاعة ودورنا في هذه المحاكمة- المسرح أن نطرح القضايا طرحا صحيحا، جريئا، قادرون ونترك الباقي لغيرنا للذين بأحزابهم وتنظيماتهم ومنتدياتهم وجماهيرهم قادرون على التغيير وعلى تحقيق أبسط مقومات العدالة. أنا لست فوضويا، ولا أدعو إليها وباكونيت زعيم الفوضويين في العالم خابت فوضويته وانتهى إلى التماس العزاء في الموت ولست متزمتا بحيث لا أضحك ولست بهلولا بحيث أضحك دون موجب للضحك، ولست مع التشدد في الانضباط في محكمة- مسرح كما حالنا الآن، كما لست مع الانفلاش حتى تلت الأمور... عودوا إذن إلى أعمالكم حسب المناصب الاسمية التي أوكلت إليكم ومارسوا حقكم في الحكم على المتهمين باستقامة ونزاهة....... أدركنا الوقت وعلينا أن نسرع. تأخرت جلسة المحكمة بعض الوقت لكنها عندما عقدت قوبلت بالتصفيق والهتاف، وبشيء من نفاذ الصبر لمعرفة الآراء التي شغلت بها قمطرة المحكمة والحاضرين... ومنذ اتخذت دندنة مقعدها وتقدمت قمطرة وصقرش من القوس وهي تنظر إليها نظرات ثاقية عساها تدرك ما في داخل هذه الآنسة التي تزوجت ولم تزوج فبقيت كما قالت محافظة على بكارتها بغير مباهاة بذلك وبغير أسى من أجل ذلك. كان على دندنة باعتبارها تمثل الادعاء أن تتكلم أولا، أن تلعب دورها على المسرح كما قال الأرقش وهو دور صعب مع مخلوقة يسكنها عفريت وفي وسعها حين تشاء أن تتغلب على هذا العفريت أن تعيده إلى القمقم الذي خرج منه.... تأملتها من طرف خفي رازتها بدقة تفحصها بفضول امرأة تأمل بكل الطرق الممكنة أن تسبر غور المرأة التي أمامها كيلا تدعها مرة أخرى تخدعها تتملص من الأجوبة التي ترد على أسئلتها بعد كل الذي سمعته من الأرقش واستوعبته تماما: قالت دندنة وهي واقفة حسب الأصول: |
|