|
ملحق الثقافي تطلّع فرأى سطح بيت، سطحاً واسعاً، أملس، نظيفا. وعلى السطح محدلة من حجر. هبط العصفور من عليائه وحطّ على المحدلة يرتاح.
اقتنصت العصفور جبلية رشيقة وحملته الى البيت . رأى العصفور أن كل من في البيت يعامله معاملة حسنة، فبقي يعيش هنا. وبنى لنفسه عشا على الحدوة المدقوقة في العارضة السخماء القديمة. أليست هذه حال كتابي أيضاً؟ كم مرة تطلعت من علياء شعري الى تحت. الى سهول الشعر، أبحث عن مكان أحطّ فيه، لأرتاح.. كلا، خيرٌ لي هنا أن أقارن نفسي بطائرة عليها ان تهبط في المطار، ها هي ذي تحوم لتحط. لكن المطار يرفض استقبالها بسبب سوء الأحوال الجوية. وها أنا ذا انتقل من التحويم الى الطيران المباشر، أواصل طريقي بينما تظل الأرض المنشودة في الأسفل.. حدث هذا لي اكثر من مرة. وقلت في سرّي: لم تُقدر لي دعامة صلبة من الاسمنت المسلّح، واذاً لقد كتب على قدمي أن تضربا في الارض دون توقف، وعلى عيني ان تتأملا دون ككل أماكن جديدة على سطح هذا الكوكب، و على قلبي ان يلد باستمرار اغاني جديدة. وكما يتمتع الفلاح الذي يحرث الارض بجمال غمامة تمرّ بقربه، أورف غرانيق بعبر عن ثم لايلبث ان ينفض عنه آثار انبهاره ويعود من جديد ليضغط بجدّ أكبر على قبضة محراثه، كذلك أنا عدت من جديد الى العمل في القصيدة التي تركتها في منتصفها. أجل، كان شعري بالنسبة لي، وإن شبهته بالسماء- ارضي، حقلي الذي احرثه عملي القاسي. فأنا لم اكتب نثراً على الاطلاق. وهذا أناذا استلم ذات مرة طرداً وفي الطر رسالة من محرّر مجلة احترمها.وبالمناسبة انا احترم محررها أيضا. ثم ان المحرر أيضا بدأ موجها رسالته« بالمحترم رسول» وعلى وجه العموم كان هناك احترام عميق متصل ومتبادل. حين فضضت الرسالة، بدت لي في حجم جلد الجاموس حين ينشره القرويون على سطح بيتهم ليجف جيدا. والصفحات حين قلبتها كانت تخشخشن خشخشة ليست اقل من خشخشة جلد الجاموس بعد جفافه، ويأخذون في طيّه اربع طيّات كي يحملوه الى البيت. ما كان ينقص الرسالة فقط هو رائحة الجلد الحادة القارصة. وبالمناسبة كتب لي المحرر يقول:« قرّرت هيئةتحرير مجلتنا ان تنشر في الاعداد القريبة القادمة مواد من منجزات داغستان ومآثرها الطيبة وعملها اليومي وليكن هذا حديثاً عن العالمين البسطاء، عن مآثرهم وعن امالهم. ليكن حديثاً عن غد منطقتك الجبلية المشرق، وعن تقاليدها الموغلة قرونا في القدم، ولكن ليكن، بشكل رئىسي، حديثاً عن حاضرها الرائع.وقد قررنا أنك افضل من يستطيع ان يكتب في هذا الموضوع، النوع كما ترتئيه:اقصوصة، مقالة، مقالة صحفية، مجموعة لمحات وصفية. ححم المادة المطلوبة:9-01 صفحات على الآلة الكاتبة، المدة:02-52 يوما. لنا وطيد الامل، ونشكرك سلفاً..» فيما مضى كان أهل الفتاة لايسألونها رضاها حين كانوا يزوجونها، كانوا يضعونها بكل بساطة امام الامر الواقع، كما يقال في هذه الايام. كانوا يقولون ان كل شيء قد تقرّر، لكن حتي في تلك الايام لم يكن أحد عندنا في الجبال يجروء ان يقيم عرساً لابنه دون رضاه. أحد أهالي غيداتلي تجرأ ذات مرة وفعلها، كمايقال. لكن هذا صاحبنا محرّر المجلة من قرية غيداتلي؟ قرر كل شيء بالنيابة عني.. لكن هل قررت أنا أن اتحدث عن داغستاني في تسع صفحات وفي فترة عشرين يوما؟ استبعدت في قلبي هذه الرسالة المهينة لي. إلا أن جرس هاتفي اخذ بعد حين يرنّ بالحاح كأنه ليس هاتفاً بل دجاجة باضت بيضتها للتوّ. وبالطبع كانت المخابرة هاتفاً من هيئة تحرير المجلة. -مرحبا، رسول! هل استلمت رسالتنا؟ - استلمتها. - أين المواد اذا؟ - أجل أنا.. اعمال.. دائما لاوقت لدّي، لاأدري كيف.. -ماذا تقول، يارسول ! لامجال للاعتراض. عدد نسخ مجلتنا مليون تقريبا. إنها تقرأ حتى خارج حدود بلادنا.واذا كنت مشغولا جداً بالفعل، سنرسل لك رجلاً. ستزّوده ببعض الافكار والتفاصيل، وهو يتكفل بالباقي. وستقرأ بعد هذا ما يكون قد كتبه، وتصححه ثم توقع. الشيء الرئيسي بالنسبة لنا هو الاسم. -فلتتكسر كل عظام من لايحب الضيوف؟ إذا استقبل أحدهم ضيفاً بوجه برم، وبجبين عابس، فلابقي في بيته كبير يقدم له نصحاً، ولاصغير يستمع الى هذا النصح! هكذا ننظر الى الضيوف. ولكن بحق الله لاترسلوا إليّ اليخالوف. فأنا اسوى دفي بدونه، وانا الذي سأصنع لجرتي يدها واذا ما أكلني ظهري، فلا أحد يحكه لي أفضل من ظفري. عند هذا انتهت محادثتنا .و سلام وكلام اخذت اجازة وذهبت الى قريتي تسادا. تسادا.. سبعون موقدا دافئا. سبعون خيط دخان ازرق يرتفع في سماء جبلية عالية وصافية. بيوت بيض فوق أرض سوداء. أما القرية، أمام البيوت البيض حقول خضر منبسطة. ووراء القرية تنتصب الصخور. لقد تزاحمت الصخور الرمادية فوق قريتنا كأنها اطفال اجتمعوا على سطح لينظروا الى اسفل، الى الحوش حيث يجري العرس. حين وصلت قرية تسادا، تذكرت الرسالة التي بعث بهاوالدي حين رأى موسكو، أول مرة. كان يصعب علينا أن نحزر أين يمزح أبي وأين يجد، كان مدهوشاً لما يراه في موسكو:«يبدو انهم هنا في موسكو لايوقدون النار في المواقد ليحضروا الطعام، لأني لاأرى نساء يصنعن اقراص الزبل وبضعنها على جدران منازلهن، ولاأرى فوق السطوح دخانا يشبه قبعة أبي طالب الكبيرة. ولاأرى محادل لدكّ السقوف ورصها. ولاأرى الموسكوفيين يجففون الحشائش على السطوح. فماذا يطعمون أبقارهم، اذاكانوا لا يجففون الحشائش.لم أر مرة واحدة امرأة تسير وهي تحمل حزمة حطب أو عشب. ولم اسمع مرة واحدة غناء الزورنا أو نقر الدف. يمكن للمرء ان يظن ان الشباب هنا لا يتزوجون ولايقيمون الاعراس. وعلى كثرة ما تجولت في شوارع هذه المدينة الغريبة، لم أر أبدا خروفا واحدا. وإني لأتساءل عما ينحر الموسكوفيون حين يتخطى عتبة بابهم ضيف؟ بماذا يحتفلون عند قدوم صديق عزيز إن لم يكن بخروف ينحر؟ كلا، أنا لااحسدهم على حياتهم هذه، بل أريد ان اعيش في قريتي تسادا حيث استطيع ان آكل الخنكل كما أشتهي بعد ان أطلب من زوجتي ان تضع فيه كمية أكبر من الثوم..» ووجد أبي كثيرا من العيون في موسكو وهو يقارنها بقريته. كان يمزح بالطبع حين كان يبدي دهشته لأن البيوت في موسكو ليست منقوشة بأقراص الزبل، لكنه لم يكن يمزح حين كان يفضل قريته الصغيرة على هذه المدينة العظيمة. كان يحب قريته تسادا، ولم يكن مستعدا ليستبدل بها كل عواصم الدنيا. قريتي العزيزة تسادا!! هذا أناذا قد عدت اليك من ذلك العالم الضخم الذي رأى فيه والدي هذا العدد الكبير من «العيوب» لقد جبته، هذا العالم، ورأيت فيه الكثير من العجائب. لقد زاغت عيناي من فيض ما فيه من جمال دون أن تعرفا أين تستقران. كانتا تنتقلان من معبد رائع الى آخر، ومن وجه انساني رائع الى آخر، لكني كنت اعرف انه مهما كان الذي أراه اليوم رائعا، فسأرى في الغد ما هو أروع منه.. فالعالم، كما ترون، لانهاية له. فلتغفر لي معابد الهند، وأهرامات مصر، وكاتدرائيات ايطاليا، ولتغفر لي طرقات اميركا العريضة، ارصفة باريس، وحدائق انكلترا، وجبال سويسرا، لتغفر لي نساء بولونيا واليابان وروما- لقد نعمت بالنظر اليكن، لكن قلبي كان يخفق بهدوء، واذا كان خفقه قد ازداد، فليس القدر الذي يجفّ فيه فمي ويدور رأسي. فلماذا خفق قلبي الآن في صدري، حين رأيت من جديد هذه البيوت السبعين التي تأوي الى سفوح الجبل، فغامت عيناي ودار رأسي كأني مريض أو سكران؟ هل هذه القرية الداغستانية الصغيرة أروع من البندقية او القاهرة او كالكوتا؟ وهل الفتاة الافارية التي تسير في الطريق الجبل الضيق وهي تحمل حزمة حطب اروع من السكندنافية الشقراء المشيقة؟ أي تسادا! ها أنا ذا أهيم في حقولك.. وندى الصباح البارد يغسل قدمي المتعبتين. ثم لااغسل وجهي بمياه السواقي الجبلية، بل بماء الينابيع. يقال، إذا أردت أن تشرب، فاشرب من العين، ويقال أيضا:ووالدي كان يردّد هذا- يمكن للرجل أن يركع في حالتين: ليشرب من العين، وليقطف زهرة. وانت عيني، ياتسادا. هاأنا ذا اركع امامك وأنهل من ينابيعك، فلا أرتوي. ما ان أرى حجراً حتى يتراءى لي فوقه طيف شفاف. هذا الطيف هو أنا. كما كنت قبل ثلاثين عاماً، اجلس عليه وأرعى أغنامي، على رأسي قلبق ذو وبر وفي يدي عصا طويلة، والغبار يغطي رجل. ما ان أرى طريقا جبليا حتى يتراءى لي فيه طيف شفاف. هذا الطيف هو أنا ايضا، كما كنت قبل ثلاثين عاما. لماذا أنا ذاهب الى القرية المجاورة؟ يبدو ان والدي هو الذي ارسلني. في كل خطوة ألتقي بنفسي، بذاتي، بطفولتي، بفصول الربيع التي مرّت بي، بالأمطار والأزهار وأوراق الخريف المتساقطة. اتعرى وأعرض جسدي للشلال المتلألىء. تياره المتدفق من صخرة الى صخرة يتناثر ثماني مرات ثم يتجمع من جديد ليتكسر اخيرا على كتفي، ويدي ورأسي. إن الرشاقة في فندق «القصر الملكي»، في باريس لعبة من اللدائن تافهة اذا ما قورنت بشلالي البارد هذا ينسل بين الاحجار الدافئة ماء يسخن خلال النهار قادماً بشكل تيار جانبي من ساقية جبلية.ان المغطس الازرق في فندق «ميتروبول» في لندن صحن تافه اذا قورن بمغاطسي الجبلية. أجل، أنا احب التجول في المدن الكبيرة سيرا على الاقدام.ومع هذا، فبعد خمس او ست جولات طويلة تبدأ المدينة تأخذ شكلا مألوفا، وتخبو رغبة التجوال فيها بلانهاية.... |
|