تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار .. يد على كتفي.. أشعلت ذكريات سنتين

آراء
الحميس 21-7-2011
ياسين رفاعية

(الاستماع إلى الشعر هو شيء من الصلاة خصوصاً عندما يكون الشاعر شوقي بزيع).

(شوقي بزيع جاري في بيروت. ويكاد يراني من شرفة بيته أو أراه.. نلتقي ونسهر معاً، خصوصاً عندما تكون زوجته الشاعرة رنيم ضاهر قد أعدت لنا عشاء متنوعاً فنكاد لا ننام على تخمة ما أكلنا من أطايب طعامها كأنه ممزوج برقتها وخبرتها وشعرها أيضاً.‏

أحاول أن أحضر كل أمسيات هذا الشاعر المشهور على نطاق واسع ليس في لبنان بل في العالم العربي كله.‏

وله قصائد مستوحاة من سورية كقصيدته عن ديك الجن الحمصي وعن سهل حوران التي لم تكن القصيدة عن المرأة هنا بل عن حوران وقمحها وأهلها، يحب سورية ومحبتي له تزداد لأنه يحب سورية.‏

قبل أيام، ناداني، فخرجنا معاً، برفقة الدكتور علي أسعد إلى أمسية من تلك الأمسيات التي يحييها الشاعر فصعدنا إلى أعلى قمة في الجبل اللبناني ما بين فالوغا وبحمدون لتستقبلنا جمهرة من الناس في بلدة رأس المثنى ودخلنا إلى قاعة كبيرة يتصدرها مسرح يصلح لعرض المسرحيات لسعته الكبيرة، استقبل الشاعر استقبالاً كبيراً. ولأننا كنا رفيقيه قدموا لنا مقعدين في الصف الأمامي وأكثر ما أكره الجلوس في الصف الأمامي حيث تكريمنا يصبح محرجاً، كما أنه لا يتاح لي معرفة الناس من حولي لأنني مضطر أن لا ألتفت إلى الوراء للنظر إلى تلك الوجوه التي كانت غالبيتها لنساء صبايا صفقن للشاعر كثيراً.‏

لكن ما قلب الوضع رأساً على عقب، أنني وأنا جالس إذ بيد أنثوية امتدت من الخلف ونامت على كتفي الأيسر، قلت.. ربما تحية عابرة لكن تلك اليد أمسكت بكتفي وضغطت عليها مراراً كأنها تريدني أن ألتفت إلى صاحبتها.‏

قلت صاحبتها وليس صاحبها. لأنها يد بأنامل رقيقة وأظافر مطلية بلون زهري تدل على أن صاحبتها أنثى ومن علية القوم.‏

بل وأنا أسترق النظر إلى هذه اليد العجينية شعرت كأنني أعرف صاحبتها فهي يد لم تكن غريبة عني ، يد كنت لزمن طويل أقبلها من ظاهرها ومن باطنها وأحياناً أرفعها إلى وجهي كي يتلمسها خدي يميناً ويساراً.‏

رجف قلبي وأحسست بالحرج، هل ألتفت لأتأكد من هي صاحبتها؟لا.. لا أريد أن ألتفت إلى تلك الأيام الظالمة التي عشتها مع صاحبتها سنوات قبل أن ينتزعها من صدري رجل آخر.‏

بل إنني شعرت بالغضب إن كانت هي الجالسة خلفي أم امرأة أخرى.. ومن التي تتجرأ على أن تضع كفها على كتف رجل وتضغط عليها ما لم تكن تعرفه ويعرفها.‏

لم ترفع المرأة يدها عن كتفي. وأنا جئت كي أسمع الشاعر وخصوصاً قصيدته (قمصان يوسف).. التي أحب أن أسمعها منه وأقرأها دون توقف. وكذلك قصيدته الشهيرة «الشاعر» التي يصور فيها معاناة كتابة القصيدة.‏

جذبني الشاعر مرة أخرى إلى شعره فحاولت أن أنسى تلك اليد التي تسرب إلى روحي دفؤها، لم تكف عن الضغط وكأنها تسرق هذه اللحظات الحميمة لتبثها كرجفة الكهرباء إلى جسدي، بل شعرت أن هذه اليد مختبئة عن عيون الناس وإلا لن تتجرأ أن تتركها صاحبتها على كتفي كل هذا الوقت.‏

من هي إذاً؟ كيف تتجرأ وتلمسني من خلفي؟ وهل كانت تتوقع أن ألتفت إلى الوراء كي أرى من هي؟‏

لم أفعل وأصررت بيني وبين نفسي ألا ألتفت لئلا أصدم فأعرف صاحبتها التي لا أريد أن أعرفها.‏

أسر الشاعر جمهوره إلى حد كبير وعندما وجه التحية لي من على المنبر بأنني جئت مرافقاً له ثم ذكر اسمي (الروائي السوري ياسين رفاعية) صفق الناس فخجلت، دائماً يفعل معي ذلك كلما رافقته إلى أمسياته الشعرية فيوجه لي التحية ويقدمني إلى جمهوره، هذه أخلاق الشاعر.‏

(عندما صفق الناس من خلفي تركت تلك اليد كتفي ليعلو تصفيقها بشكل خاص حتى عندما توقف التصفيق ظلت تصفق منفردة.‏

ثم عادت واحتضنت يدها كتفي من جديد.‏

نظرت إلى تلك اليد التي فاح منها عطر أليف لا أنساه أبداً، أتراها هي؟ إن كانت هي فقد ذهب كل منا قبل أسابيع في طريقه.. قالت: عشت معك أجمل أيامي.. والآن انتهى كل شيء.. فهناك من طلب يدها فنان في أول درجات السلم تنتظره شهرة كبيرة.. قلت: حسناً.. لا أملك لك إلا الدعاء بالسعادة والتوفيق.. غادرتني ودموعها تملأ عينيها ولعلني في تلك اللحظة سترت دموعي بكفي أنا أيضاً.‏

لا أريد أن ألتفت إلى الخلف لأعرف من هي.‏

بل لا أريد أن ألتفت إلى الماضي كله الذي جمعني بها لسنتين من الحب ونسيان الوجود في أحضانها.‏

لا أريد أن ألتفت إلى لحظات الوداع القاسية التي كانت كحمامة أريد أن أخنقها.‏

فلماذا جاءت؟ كيف عرفت؟ وهي من أهل وطائفة هؤلاء الذين دعينا إليهم، ناس بسطاء، جميلون وأحلى ما فيهم حبهم للشاعر الذي ما إن شارف على الانتهاء حتى أعادوه ليقرأ من جديد.‏

ربما شعر شوقي بزيع أنني منصرف عنه أو أنني في واد آخر فتعمد أن ينظر مباشرة إليّ وهو يقرأ القصيدة التي أحبها «الشاعر».‏

خجلت منه، فحاولت أن أتناسى اليد الملتصقة بكتفي، وحاولت أن أرفع كتفي مراراً لعلها ترفع يدها عني..‏

لم تفعل.. بل كانت مصرة على الامساك بي كأنني إذا ما التفت إليها سأهرب منها.‏

حاولت تجاهل ذلك لعلها مع انتهاء الأمسية ستقف أمامي وجهاً لوجه وتقول: هاأنذا.‏

ماذا سيكون موقفي إذا فعلت ذلك؟ بل ماذا سأقول لها، وجرح الهجر مازال طازجاً؟‏

ماذا سأقول لها عما فعل الربيع بالخريف.. أوراق الشجر الصفراء تتساقط، والريح تهب على الغابات وتصفر منتحبة .‏

ماذا سأقول لها، إنها أخذتني شجرة وتركتني جثة..؟‏

انتهى الشاعر.‏

وقف الناس يصفقون.‏

فرفعت صاحبتها يدها عن كتفي.‏

بعد لحظات، كان عليّ أن ألتفت.. فلم أجدها.. ووجدت مقعدها فارغاً.‏

***‏

قبل أن ترحل تركت لي على باب بيتي هذه الورقة‏

كأن شيئاً لم يكن‏

لملمت أحزاني المبعثرة‏

جمعت بعضي ونفسي المنهارة‏

تعكزت على ما تبقى فيّ من إرادة ومقدرة‏

حاولت الوقوف ورحت أمضي‏

أتنشق الهواء أضعافاً‏

لعله يصل إلى رئتي وقلبي المتجمد‏

أضغط على عيني كي أطيل النظر‏

أستشعر ذاتي أتلمّس فراغاً‏

فاقدة الحواس أسير وراء المجهول‏

أسرع الخطا لأخرج وأسترد روحي‏

أتهاوى، أنقض على نفسي لأنهض فأسقط مجدداً‏

الأنا تكسرت تحت أقدام الأنت‏

بعدك، أنا، جسد بلا نبض‏

ارحل عني، انفصل عن روحي، أريد نفسي‏

أنت وهم حلم مزعج‏

سأستيقظ‏

انتظرني بعض الوقت‏

سأنهض.. كأن شيئاً لم يكن‏

شيرين محمود- بيروت‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية