|
آراء عرّف أرسطو في منطقه: /المفهوم/ بأنّه (التصور).. في المعاجم الفلسفية لا يوجد توضيح مقنع لمسألة الفرق بين:/المفهوم، والتّصور/.. بعضها يقول: (إنّ المفهوم هو تمثيل ذهني مجرد وعام)، وهو مرادف للفكرة العامّة، والمعنى المجرد، بعضها يرى أنّ /الفكرة/ تنتمي إلى اللغة العامّة، والمفهوم هو /اصطلاح تقني/ خاص بالفلسفة، ويضرب مثلاً لذلك بأنّ تكون لي فكرتي عن /العدالة/.. والرؤية هنا فيها بعض الذاتية، والشخصية.. أمّا /مفهوم/العدالة/ فهو مستقل، وموضوعي خارج عن الرؤية الذاتية في الموضوع. بمعنى لكل أفكاره، والتي هي إلى حدّ ما شخصية، أمّا /المفاهيم/ فهي ليست شخصية، بل لها محدداتها، ومعانيها.. وبالمتابعة نجد أن تقديم تعريف جامع ومانع لـ (المفهوم) يحمل معنى التحديد، والضبط غير حاصل حتى الآن على الأقلّ رغم ما قطعته الأبحاث الفلسفية، ومسألة الاشتغال على المصطلحات وتحديد دلالاتها. لكن هناك جملة خصائص تميّز /المفهوم/ وتسهم في تأطير أركانه وحدوده، وتضيء مساحة الدّلالة فيه. من هذه الخصائص أنّ المفاهيم /طابعها تنظيمي/ سواء ارتبطت بحقلٍ/علمي/ أو فلسفي بمعنى أنها ترمي إلى إنشاء منظومات فكرية، وعلمية قاعدة ذلك تنسيق المعارف، وتصنيفها وتنظيم حقولها، وحدودها، واشتغالاتها.. من هنا لابدّ أن تحمل /المفاهيم/ طابعاً نظرياً مجرداً في البداية. /ماهية معرفية/ تتطور فيما بعد توظيفاتها التطبيقية في علم الاجتماع، والاقتصاد، والعلوم الأخرى، وغيرها.. الخاصة الأخرى في /المفاهيم/ هي أنّها محصلة جهود فكرية عبر التاريخ.. الخاصة الثالثة هي مسألة /التكامل/ في المعارف، خاصة بين الفلسفة والعلوم حيث تلعب المفاهيم العلميّة دوراً ايجابياً محدداً، ومتقناً للمفاهيم الفلسفية بمعنى العلاقة القائمة بين الفكر، والعلم، والفلسفة.. هناك خاصة أخرى /للمفهوم/ هي خاصة /توحيد المتعدد/ مثال ذلك في التاريخ فحركة التاريخ هي حركة النّاس أفراداً، ملوكاً، قادة، علماء، سياسيين إلخ.. فحراك الناس على تنوع عطاءاتهم، واشتغالهم الفرديّ، أوالجمعيّ المتعدد بمستوىً أو بآخر، له نتائجه العامة، وتراكماته المعرفية، وهي استنتاجات ومفاهيم لها طابع التوحيد لمفهوم الحركة المجتمعية، ونتائجها، وخلاصاتها /فالمفهوم/ هنا هو الصّياغة العامّة للمتعدد الحركي المجتمعي الفكريّ، وتعريفه، وترتيبه. ثمّ هناك تراتبية تكوين المفاهيم وهي خاصةٌ عامّةٌ، ومشتركة حيث يقوم /الإدراك/ وادواته البصر، والسّمع، واللمس بالخطوات الأولى في تشكيل المفهوم.. هناك قضايا أخرى في تكوين /المفاهيم/ وهي: أنّ إنتاجها مرتبط بالانتاج الثقافي، والمعرفي عموماً.. ثمّ تأتي المفاهيم لتحدد جزءاً من الدّلالات الثقافية والمعرفية المنتجة، والمتداولة. إنّ الثقافة تبدع بغير انقطاع رموزاً جديدةً خاصة باللغة، والفن، والدّين، ومن مهام /الفلسفة/ تفكيك اللغة الرّمزية من أجل التوصّل لفهمها.. هكذا يكون التحليل الفلسفيّ لما هو معرفي، وثقافي في /الحالة المركبة/. يرى /كانت/ الفيلسوف المعروف أنّ /المفاهيم/ وتشكيلها ليس عملاً مجرداً محضاً بل هي تمرّ بمرحلة المقارنة، وقراءة الصّفات المشتركة بينها ثّم التمييز، والفرز بين المفاهيم بمعنى مقاربة بعض الدّلالات الحسيّة ليتشكل المفهوم المجرد فيما بعد. أي من المحسوسات إلى المجردات. بالنسبة إلى مرونة المفاهيم، وموقعها، وتأرجح استخدامها يمكن القول: كثيراً ما تستخدم مفاهيم /شائعة/ لانتاج أخرى جديدة، وهذا لا يلغي المفاهيم الأولى رغم طابعها الشائع وبالتالي قد تصبح المفاهيم المتولدة /شائعة/ في يوم ما.. بمعنى متداولة، وشعبية، وليست بالدّقة الضّبطية المفاهيميّة. في مسألة استمرار /المفهوم/ وديمومته هذا مرتبط بالحقل المعرفي الذي يشتغل عليه المفهوم، فالمفهوم السّياسي، أو التاريخي كثيراً ما يكون عرضة للتبدد والضياع بسبب الاستعمال الشائع له، والاستغلال المفرط للمفاهيم المنتمية إلى هذه الحقول.. خاصة عندما لا يصحب التوظيف السّياسي أو التاريخي للمفهوم تنظيم /تقني/ لدلالة المفهوم، والأرضيّة التي يراد أن يؤطرها المفهوم، وبالتالي فكلما ابتعدنا عن المجال الأصلي لإنتاج المفهوم، ووسعنا مجال نشاطه، واشتغاله فإننا بذلك نفقده خصائصه الأصلية، ومحدداته المعرفية، ليصبح عاماً ومبعثراً وخارج حدود الدّلالة المعرفية الأصلية. في مسألة استمرار علاقة /المفهوم/ باللغة.. تلعب اللغة دوراً مركزياً، وحيوياً ومصيرياً في مجال الإبداع البشري، والمنظومات الفكرية، والعلمية المختلفة تركز في جزء كبير منها على اللغة، فداخل اللغة توجد الأفكار، وانتاج الأفكار، والمعارف يتعلق كثيراً بطبيعة اللغة المستعملة، وخصوصيتها.. فالفلسفة اليونانية مثلاً متأثرة إلى حد بعيد ببنية، وفضاء اللغة اليونانية، والفلسفة الالمانية هي تكثيف وإبداع للغة الألمانيّة، وكذلك العربية في لغتها لدى ابن المقفّع، والجاحظ، وأبي حيّان التوحيدي، والمعري، والمتنبي والأرسوزي وغيرهم.. إنّ المفاهيم المتقابلة التي تتحملها اللغة تجعل الاشتغال الفلسفي وارداً على دلالاتها، ومرادفاتها، وتأويلها.. هكذا اللغة في علاقتها مع الفكر تحمل جدليتها، وثنائيتها، فهي وعاء الفكر، وهي التي تحوّل الحالات الشعورية إلى أفكار مجردة. والمنطق كنمط فلسفي وثيق العلاقة باللغة.. من هنا كانت الرابطة بين اللغة، والمنطق، وعلم النّحو، وعلم الدّلالة. إنّ حصول الإنسان على المعارف، والأفكار، وبناء المنظومات الفكريّة، والعلمية يبقى رهناً بمدى أصالة /المفاهيم/ المنتجة، ومدى قدرتها على كشف أعماق الاشكالات، فالعمليات الذّهنية للإنسان لا يمكن أن تتمّ دون ضوابط ومحددات، وهذه ستكون مفاهيم بالضرورة، فالادراك يقتضي وجود المفاهيم، والمعاني العامّة للمدرك وعلاقاته، وبدون /مفاهيم/ تكون المعرفة سطحيّة، وربّما مستحيلة. إنّ /المفاهيم/ مثلها مثل الكائنات الحيّة تحمل عمراً معرفياً. وحياةً فكرية، تظهر خلال فترة معرفية معينةٍ، ثمّ تختفي أو يتمّ تجاوزها. والمفهوم الحقيقي سياقه تجديدي، وإن لم يكن قطيعة بالمطلق مع المفهوم الماضي، والمفاهيم تأخذ شكل النظام، أوالمجال المعرفي الذي تتكون فيه، وقد لا تتوفر لها الحياة في بيئاتٍ معرفيةٍ أخرى. الإنسان هو في خدمة الأفكار التي تخدمه، وقد يعيش الإنسان ويموت من أجل فكرة اعتقدها وآمن بها. والمفهوم مثلما يمكن أن يتأطر في قانونٍ، فإنّه يمكن أن يتحول إلى نظريةٍ، ولكن ليس كلّ /المفاهيم/ يمكن تحويلها إلى نظريات. إنّ غنى المفاهيم في مجال معرفي معين يؤدي إلى تداولها، واستعارتها إلى ميادين أخرى مختلفةٍ عن الأولى، لكن تكون المقاربة للمشترك المفهومي، ولمنهجية صياغة محددات المفهوم وهي الأساس. المفاهيم تؤدي دور المنظومة الاسناديّة المعرفية المحورية في كلّ عمليات إنتاج المعارف عبر نظام اللغة. ثقافة الإنسان، وتراكم معارفه المختلفة هي التي تغني /المفاهيم/، وتنتجها وتحددها. والمفهوم يمنع تحوّل الفكر إلى مجرد رأي بسيط. إنّه /يؤصل الفكر/ عبر/المرتكزات المفهوميّة/. عملية إبداع المفاهيم ليست عملاً سهلاً. لحظة الفكر غير لحظة الزّمن. في الأولى الإبداع، وفي الثانية سرعة حركة الزّمن وحضورنا الفكري في الزّمن أو غيابنا عنه هو مسألة بين الوعي، واللا وعي. فلنكن مشتغلين أشداء على فكرنا، ومفاهيمنا، وتوليدها، وتثقيفها، لنجدد الاصيل بدل الشائع، والجديد بدل السائد الاجتماعي.. هذه مقاربة لدلالة المفهوم آمل أن ألا أكون ذهبت بعيداً في هذه المقاربة. كاتب وباحث |
|