تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار.. مازال عطرك يعشش في أنفي يوم الوداع

آراء
الخميس 2-4-2009م
ياسين رفاعية

«عمر هذه الرسالة خمسة وعشرون عاماً لم ترسل إلى صاحبتها التي رحلت عن هذه الحياة قبل أسابيع.. أنشرها الآن تحية لذكراها»..

أبحث عن صمت يصرخ في النشوة الهاجرة، لأنك أيتها المرأة الساكنة عصافير الليل، أمسية القلب ومناديل الدموع، كل هذه الأعوام وأنا واقف في ساحة الأفق البعيد أغني بصوت أخرس عذابات رجل وحيد مثل حصاة ساقطة من القمر الحجري، في الأبعاد التي لا حدود لها، أعاني وحشتي بين ملايين الكواكب، موتي مطر، وحزني عاصفة لا تهدأ عن العويل.‏

آه يا عذابي اليومي‏

ماذا أصنع بين هذه الملايين فوق الأرض؟ ماذا أصنع غير أن أعلمك كيف تعشقين، كيف تذوبين شمعة في كف الحبيب؟ كيف ينتصر الحب على الموت المفاجئ؟!‏

أنا اللحظة أكتب رثائي بالحبر الأسود، ثمة في الأفق انذار يملأ السماء، ثمة في الأفق عاصفة قادمة تقتلع الأخضر واليابس.‏

أعرف أن العالم مقبل على فاجعة، لأن الجحيم يزحف عيوناً بعد عيون لتملأ ناره ما لا ينفع الناس.‏

أكتب رثائي بالدم، وتحت سطوري ألف صرخة آه.. وألف ألف نداء، ما من قريب أعطى الأمان، وما من صديق جاهر بالوفاء، ناديت بالحب منذ ائتلفت بالحياة، فما نال هذا القول إلا السخرية من الذين ليسوا قادرين على الحب، فما تبتل قلوبهم بماء العشق الفريد.‏

أكتب رثائي بالنار، تحترق أناملي بالعبارات الحارقة، فالجلاد يقترب بسكينه من العنق، هذا العملاق الذي يهوى الذبح من الوريد إلى الوريد..‏

فأين يدك الطرية تمنع سقوط المقصلة؟ أنت حبيبة الروح أشقى بك كما يشقى النهر بمجراه، وكما يشقى البحر بصراخ موجه الرتيب.‏

هكذا أنا تجمهرت حولي، وها أنا أسير حبك منذ بدء الخليقة، الصباح أنت والليل والأحلام، الماء أنت والخبز والزيتون، الورد أنت والعطر والغصن الأخضر، وأنا السجين الأبدي، خُيّل لي ذات يوم أنني سأتحرر وأخرج إلى الهواء الطلق، أخرج من الظلمة إلى النور، أعيد صياغة أحزاني على الجدران، لكن الليل ظل هو هو والنهار، كل التفاح لم ينضج، الحامض في الماء، الحامض في الدموع، الحامض شفرة العذاب، الحامض على أناملي وفي حبر الكتابة، الحامض على الشفاه، الحامض في الأيام الماضية والأيام الآتية، إنك السجن وأنا السجين الوحيد.‏

أهذا هذيان الجنون؟‏

أغدو مع الصخر والرياح والآفاق، تيار يمد بي وتيار يجزرني إلى غربة الموج.‏

أنحني لحظة العشيات غسقاً تجرحه الأهداب.‏

ياسيدة الحلم.. هكذا كانت السيوف تتطاحن بين قلبي وجرحي هكذا كانت ترمى الرماح بين نظرة العين وحركة اليد كل الجياد تدوسني بحوافرها في الرمل الفارغ وأنا بين النهوض والسقوط.‏

تعالي إلي من هذا الجنون، يدي ترتفع لتهوي كحد الشفرة على العروق الندية أنا متعب من الأيام الضارية، متعب من الذئاب تنشب مخالبها في الذكريات، متعب من الصحاب يترنمون بأحزاني، متعب من نظرات الناس شماتة الأعداء، متعب من قسوة الصخر يتفجر فوق الأنامل، متعب من نداء الليل لشمس لا تشرق، ومن وحشة القمر بين صخوره وفجواته، متعب من السفر والغربة مستوحشاً، ومن العودة إلى الوطن غريباً، متعب من الناس والوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، متعب مما أنا فيه وأنت فيه.‏

أكتبك على جدار القلب مفتاح الجنة هدوء البال، فابسطي على صدري جناحيك.‏

أنت فتنة الأبد، وأنا عابر السبيل ذاهب إلى المنعطف الأخير، ليس خلفي روايات حزن لا تكتب، وأناشيد ألم لا ترسم فوق السطور، أباحني الزمن للفواجع، لم يبق مني غير الغبار، غبار الأقحوان والزمن الآفل.‏

أنا سرير التراب، سرير البهاء الذي لا يقهر، سرير النعمة أحمد الله بها ليلاً ونهاراً، سرير العشق يقف بين القضاء والفضاء، سرير الحنين فوق وسادتي تتوازن الأشياء.‏

مامن امرأة جميلة إلا اشتهت النوم فيَّ لأنني من الصمت أصنع الرؤيا، ومن اللفتة النادرة أنشر الحب الجميل.‏

قفي إلى جانبي فوق هذا الركام، قولي للأبهة المنيرة أن تخيم فوق رأسينا تاجاً وجواهر ولآلئ، قولي للشعر أن يتلى في حضرتنا تلاوة النغم الأثير، قولي للضياع أن يجد نفسه بين أيدينا لغة وأفقاً ومداراً، قولي للكلمات أن تخرج من موتها، فالحياة لها شفاه العشاق النادرين، قولي للجنين أن يخرج دون خوف، وللولادة أن تصرخ نداء الحياة، قولي للصدى أن يسترجع صوته وللصوت أن يسترجع صداه.‏

قولي للقلب أن يتجذر في الأبجدية، وللنور أن يشع في الظلام، قولي للخطأ أن يعود عن خطئه، وللصح أن ينشر عطره بين الخلق، عندما تكونين إلى جانبي، ثمة ما يحدث في الكون، ثمة ما يصحح كل مسار، ثمة أشياء، تستقيم بك وتقف في مكانها الصحيح.‏

إذا أحببتني الآن، مثلما أحبك، تستيقظ العصافير ويتلو الربيع أناشيده.‏

إذا أحببتني أعياد تقام هنا وهناك، في هذه المدينة وتلك.. في هذا الوطن والمنفى، أعياد تقام في كل بيت وفي كل غرفة نوم إذا أحببتني، إذا أحببتني مثلما أحبك، تشرق شمس من المحبة في كل مكان - تعلن الأرض حنينها للشمس والنجوم حنينها للبشر وفي كل حلم يقام عرس ،إذا أحببتني مثلما أحبك نبني صرحاً من العواطف لكل البشر.‏

ما سبق منهم وما تأخر في الماضي والحاضر والآتي إذا أحببتني.‏

إذا أحببتني وربع قرن وأنا أحبك دون توقف أحبك في الغياب والحضور بين سفر وسفر بين الليل والنهار بين رنين الساعة ودقة القلب وما زلت حتى اللحظة أضم جسدك الغض إلى صدري يوم الوداع ما زال ساعداك الطريان حول عنقي ما زالت أناملك الدافئة تلامس وجهي يوم الوداع ما زال عطرك يعشش في أنفي يوم الوداع.‏

كانت حياتنا كلها سفر ورسائل وبرقيات وانتظار في المرافئ والمطارات ومحطات القطار وما زلت حتى اللحظة أحتفط بمناديل الدموع وفي الغربة البعيدة اكتشف كم أنا بحاجة إليك وكم وكم أنا أتمناك وكم كم أنا أشتهي الموت في أحضانك وكم؟.‏

دائماً كنا على سفر ووداعات.‏

سفر لا يمتلك اللقاء كما يمتلك الوداع.‏

أصابعي تحترس من كل شيء كي أكتب لك أفكاري تتجسد في صورة وجهك كي تبثني صفاتك النادرة وكل مساء أتنصت على قلبي كم يهتف لك وأتنصت على حواسي كم تناجيك أغرق تحت الماء بقدر ما أختنق، أحبك أضع راحتي فوق النار وبقدر ما أحتمل أحبك.‏

وبقدر ما أتحمل العطش في الصحراء أحبك إنني أمتحن نفسي في كل المواجع كي أعرف كم أحبك ودائماً أكتشف أن حبي لك فوق الوصف كما هو فوق الاحتمال.‏

عصرك أنت هذا العصر.‏

الخبز مطحون بقمح بشرتك، القهوة مطحونة بلون شعرك، البحر مجبول بلون عينيك، الكرز مجبول بلون شفتيك.‏

عصرك أنت هذا العصر، ووحدك الفصول الأربعة وحدك المدن الجميلة والملابس الأنيقة وحدك الحنان وحدك روعة الحب وأناقة الشموع وحدك الحياة إذا سقط الموت في قاع القلب.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية