|
الثلاثاء 9-10-2012 « كم أشعر بالأسى على الأجيال التي لم تشهد حرب تشرين،ولم تتذوق طعم أيامها الممزوج بالكرامة والعزة والمحبة..فإن حرمتهم أعمارهم الفتية ذلك،ففي ذواكر آبائهم وأمهاتهم ما يعينهم على معرفة سر خلود السادس من تشرين نضراً في ضمائرنا..» ..هذا ما كتبته على صفحتي في الـ(فيسبوك) صبيحة يوم الذكرى، وقد عنيت كل كلمة تماماً،فبعد أربعة عقود لا يزال ذكر كلمتي حرب تشرين يستحضر من ذاكرتي (مثل كثيرين غيري) صوراً ومشاعر تبدو لشدة نضارتها وكأنها ابنة اليوم..فتشرين حرب الإرادة والثأر للكرامة بدأت قبل انطلاق طلقتها الأولى بسنوات..وتحديداً في اليوم التالي لحرب حزيران..كان الوطن كله يسأل: لماذا خسرنا..وكيف هو الطريق إلى النصر ؟..دارت الحوارات في كل مكان عن مكامن الضعف وسبل تخطي حالات من التخلف والتردد..انطلق العمل الفدائي الفلسطيني محاطاً بمحبة الناس من أقصى الأرض العربية إلى أقصاها مطعماً بمئات المتطوعين (فالشهداء) من سورية ولبنان والعراق ومصر والأردن..وفي سيناء كان أبطال (منظمة سيناء العربية) يعلنون بدورهم، وعلى طريقتهم، رفضهم للهزيمة وخيارهم طريق المقاومة،عشرات المعارك الخالدة خاضها المقاومون العرب في (الأغوار) و(الكرامة) و(العرقوب) وفلسطين المحتلة،فيما كان الجيشان السوري والمصري يشهدان أسرع وأكبر عملية استعادة وتطوير لقواهما..وكانت عملياتهما الحربية بعد أشهر قليلة من انتهاء حزيران ترسم العنوان الكبير لما هو قائم،وقادم: رفض الهزيمة، والاستعداد الجاد لحرب التحرير..وفي إطار هذا العنوان الكبير أغرقت البحرية المصرية مدمرة (ايلات) وشنت حرب استنزاف ضد العدو المتمترس على ضفاف القناة أغارت خلالها قوات الصاعقة على مواقعه مراراً،ودمر أبطال البحرية عدداً من سفنه في غارة جريئة للضفادع البشرية على مرفأ (إيلات) وحرم القناصون جنوده من رفع رؤوسهم خلف الساتر الرملي..وعلى جبهة الجولان خاض الطيارون السوريون معارك مشرفة،وأغاروا على مواقع في عمق أرض العدو،واقتحمت كتائب الدبابات خط الجبهة في معارك خالدة استمرت ثلاثة أيام دون توقف..كان ذلك كله تدريباً قتالياً معمداً بالدم،وجزءاً يسيراً من تحضيرات واسعة لتشرين..قبل 1973 بسنوات كان الجيش المصري ينجز تدريباته الاستراتيجية على خطة (غرانيت) لعبور قناة السويس،فيما كان الجيش السوري يجري عشرات المناورات الحية لاجتياح خط دفاع العدو في جبهة الجولان، وأبطال الوحدات الخاصة يتدربون بعيداً عن العيون على تسلق مرتفعات قاسية استعدداً لاقتحام مرصد جبل الشيخ،وأبطال الطيران والدفاع الجوي يقدمون أرواحهم الطاهرة ليبقى سلاحهم الفتاك سراً مصاناً إلى أن تبدأ الحرب..وأبطال البحر يتحضرون بدأب ليوم المواجهة الكبرى.. لم تكن الحرب مفاجأة إلا بمقدار التحول الذي صنعته في سرعة وجدية التحضير لها..ولم تكن مفاجأة إلا بمقدار ما أظهرته من إرادة في النصر على الهزيمة سواء كانت في النفوس، أم على الأرض. كانت الحرب بطولة شعب بأكمله تجلت بأبهى قيمها في صور الجنود الأبطال في كل مكان ..وحين صدح صوت الرائعة فيروز بأغنيتها الرائعة (خطة قدمكم ع الأرض هدارة)* عند الثانية من ظهيرة السادس من تشرين كان كل شيء قد أعد من أجل إطلاق الإرادة الحرة..أخليت المدارس لتتحول بزمن قياسي إلى مستشفيات،وكدست أكياس الطحين أمام المخابز لتطمئن الناس على رغيفهم،ومن ثم اندفع الناس إلى سطوح منازلهم ليشهدوا صواريخهم وهي تطارد الطائرات المعادية وتدمرها..لم يخفهم قصف البيوت..ولا أصوات صفارات الإنذار،ولم يهز معنوياتهم العالية تدمير العدو محطات الكهرباء وخزانات الوقود..اندفعوا لإزالة الأنقاض و مساعدة الجرحى.ودهن زجاج النوافذ ومصابيح السيارات باللون الأزرق،والتطوع في فرق الدفاع المدني، وفي المعامل بدلاً عن العمال الذين صاروا جنوداَ في الجبهة ..ألقوا القبض على الطيارين الإسرائيليين، وقفوا بالدور أمام المخابز، تقيدوا بقواعد المرور رغم اختفاء شرطة السير..كان ذلك كله نتيجة الإحساس العالي بالكرامة الوطنية المستردة.. وبحب الوطن الذي جمعهم على هدف واحد.. *خطة قدمكم هو اللفظ الصحيح والمقصود منها خطوة قدمكم كما ذكر منصور الرحباني في ندوة ضمن مهرجان المحبة في اللاذقية. |
|