تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الشاعر الروسي مايكوفسكي ..انتحار المستقبل .. (1893-1930)

ثقافة
الأثنين 25-7-2011
ممدوح السكاف

في عام 1956 اقتنيت أول كتاب يصدر بالعربية في بيروت عن الشاعر الروسي العظيم (مايكوفسكي) قام بترجمته عن الفرنسية الراحلان نصوح فاخوري وإحسان سركيس وكلاهما من بلدي حمص، الأول كان شاعراً في مقتبل حياته الأدبية والثاني كان ناقداً وباحثاً

معروفاً على مستوى سورية ولبنان، أما أنا فكنت آنذاك طالباً في الصف الثامن، لي من العمر ستة عشر عاماً، أهوى الأدب والشعر منه خاصة ومازلت أحتفظ بهذا الكتاب في مكتبتي.‏

ومنذ ذلك التاريخ توطدت علاقتي الشعرية بهذا الحداثي المبكر في تاريخ الشعر السوفييتي بل والعالمي، أستزيد معلوماتي عنه من خلال اطلاعي على المصادر والمراجع الكثيرة التي كتبت عنه من مثل كتاب الأديب الراحل جلال فاروق الشريف الصادر ببغداد في سبعينيات القرن العشرين عنه وقد رجعت بهذا الخصوص إلى كتاب (ذكريات الصبا والشباب) للكاتب الروسي الشهير (باسترناك) وما خطه يراعه في تذكره لصداقته مع الشاعر المستقبلي المنتحر قهراً (مايكوفسكي) وطبيعة نفسيته الاجتماعية الغاضبة على كل مالايرضيه ويقنعه أثناء اندلاع الثورة الشيوعية في وطنه وفي زمنه حيث قال عنه المؤلف «كانت الحياة الجديدة الصاعدة تجري في دمة بقوة وحماسة ولم تكن غرابة أطواره إلاصورة لغرابة عصرنا الذي نصفه قديم ونصفه جديد، نصفه لم ينعدم ونصفه لم يوجد على حقيقته الكاملة بعد» ثم أورد مقطعاً من قصيدته الشائعة (سحابة في سروال) وبعضهم يترجمها (غيمة في بنطلون) يقول فيه:‏

«أشعر بآنيتي تضيق عني.‏

أشعر أن إنساناً ينتزع نفسه لينطلق من داخلي..‏

رنين التليفون.‏

- من المتكلم.. أنتِ يا أماه؟.‏

- أمي ابنك مريض مرضاً بالغ الروعة يا أمي (يقصد بالمرض مرض الحب).‏

- أمي.. إن قلبه يتلظى ويحترق.‏

- أخبري شقيقتيه (ليودا) و(أولغا).‏

أنه لايجد لنفسه ملاذاً».‏

فقبل أن ينتحر شاعر الثورة الاشتراكية العظمى (مايكوفسكي) يوم 14 نيسان عام 1930 في غرفته بآخر طلقة مسدس كانت فيه وجهها إلى قلبه ترك رسالة صغيرة يقول فيها: «إنني أموت فلا تتهموا أحداً ولا حاجة للتقولات فالميت يشمئز منها» ثم بعد أن يرجو تحقيق مطلبين يتعلقان برعاية أسرته مادياً وإنتاجه الأدبي والشعري معنوياً يختم وصيته بهذه العبارة الغامضة التي قد تلقي ضوءاً يكشف إلى حد ما بعض أسباب انتحاره ويمكن اختصارها بكلمة (اليأس): «زورق الحب بالحياة اليومية اصطدم وتحطم.. صفيت مع الحياة الحساب فلا لها ولا عليّ، ولا جدوى من أن تستعاد الآلام والتعاسات والأخطاء من الطرفين.‏

وفي هذا السياق نستعيد آراء بعض الأقلام الناقدة التي أدانت إلزامية الأدب وأضاعت أصالة الأديب بصورة عامة والمنطلقة من خارج الاتحاد السوفييتي تدين هذا التصرف، وهذا قد يفسر نهاية عدد من أدباء الثورة الشيوعية، تلك النهاية الغامضة، فإذا كان بعضهم لايعرف كيف قضى كاتب الثورة (مكسيم غوركي) صاحب كتاب (الأم) فمن الثابت أن شاعرها (مايكوفسكي) صاحب «القامة الكيلو مترية» و«دعوة للشمس» و«مزمار الفقرات» قد انتحر، وبصدد انتحاره كتبت «ليلى برك» حبيبة مايكوفسكي وصديقته الأثيرة التي توفيت قرب موسكو عام 1978 عن ست وثمانين سنة تقول تعليقاً على انتحاره: «لماذا أطلق مايكوفسكي الرصاص على نفسه؟ السؤال معقد والجواب كذلك.. لقد أحب مايكوفسكي الحياة بشوق كبير.. أحب كل تجلياتها أحب الثورة.. الفن.. العمل.. أنا.. المرأة.. الإثارة والهواء الذي يتنفس، لقد ساعدته طاقته المدهشة على دحر كل العقبات لكنه أدرك أنه غير قادر على دحر الكبر، وبخوف رهيب راح ينتظره منذ صباه المبكر» راجع العدد الحادي عشر عام 1979 من مجلة الآداب اللبنانية بحث (مايكوفسكي: الحب والشعر) ترجمة وحيدة المقدادي.‏

يرى عدد من علماء الاجتماع وعلى رأسهم مكرم سمعان صاحب كتاب (مشكلة الانتحار) الصادر عن دار المعارف بمصر عام 1964، أن الأسباب التي تقود إلى الانتحار كثيرة ومختلفة يحصرها دارسو هذه المشكلة الاجتماعية الإنسانية في عدة عوامل أهمها الإصابة بأمراض جسمية مستعصية أو اضطرابات نفسية عقلية أو الوقوع تحت ضغط صعوبات مادية اقتصادية كتدهور دخل الشارع بالانتحار وتراكم الديون عليه أو مواجهة مشكلات سلوكية موقفية وتوتر علاقات شخصية كالانعصاب الانفعالي والصراع مع الآخرين والتورط في جريمة ما وغير ذلك من الأسباب والعوامل التي تقترب أو تبتعد عن هذه الحالات تبعاً لظروف المنتحر.‏

وتعقيباً على الرأي السابق نتابع فنقول: في كتابه (مايكوفسكي: غيمة في سروال) الصادر حديثاً عن اتحاد الكتاب العرب لمترجمه ومقدمه الأستاذ الأديب مالك صقور نقع (ص20) منه على تعليل انتحار هذا الشاعر المستقبلي الكبير، في سياق كلمة قالها ماركس: «إن الشعراء بحاجة إلى كثيرمن الحنان..» ويعقب على هذه العبارة (لوناتشارسكي) صديق ورفيق مايكوفسكي قائلاً: «لم نفهم كلنا هذا، ولم نفهم كلنا أن مايكوفسكي كان بحاجة إلى المزيد من الحنان، لقد كان بحاجة إلى كلمة حنون دافئة نابعة من القلب» في الختام لابد لنا من القول: إن الدوافع الأساسية لأي عملية انتحارية إما أن تظهر من خلال الوصية- إن صدقت- أو الرسالة التي درج معظم المنتحرين على كتابتها قبل الشروع في فعل الانتحار إذا صدقوا في ذكر أسبابه ودوافعه وموجباته وظروفه أو تبقى حبيسة- على الأغلب- في صدر المنتحر فتموت معه عادة فلا أحد يعرف لماذا انتحر المنتحر إلا المنتحر نفسه، وها هو قد غادر وأخذ معه سر انتحاره.‏

يحضنا الزميل مالك صقور في كتابه المذكور أعلاه على المعرفة قائلاً: «لماذا انتحر الشاعر الكبير مايكوفسكي، ومايكوفسكي ليس هو المبدع الوحيد الذي انتحر، لقد انتحر قبله وبعده كثيرون، ويتابع مالك كلامه فيسرد قائمة بأسماء أدباء عالميين انتحروا منهم الروائي الألماني (هنريش فون كليست) الذي انتحر عام 1811 والروائية الإنكليزية (فيرجينيا وولف) التي انتحرت عام 1940 والكاتب الألماني (ستيفان زفايج) الذي انتحر عام 1942، ثم حدث انتحار الشاعر الروسي سيرغي يسينين 1945 والكاتب الأميركي (ارنست همنغواي) 1961 وآخر الذين نعرفهم انتحار الشاعر اللبناني خليل حاوي عام 1982 إثر اجتياح جيش العدو الصهيوني للبنان ويبدو أن الأستاذ مالك قد سها عن ذكر انتحار الشاعر السوري عبد الباسط الصوفي الذي أوفدته وزارة التربية أثناء الوحدة بين مصر وسورية في بعثة تعليمية إلى غينيا لتدريس اللغة العربية في مدارسها فمات في عاصمتها كوناكري منتحراً يوم 20 تموز عام 1960.‏

m.alskaf@msn.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية