تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قراءة في محاضرة فلسفة التكوين الفكري

ثقافة
الاربعاء 3/8/2005
د. احمد الدريس

عندما قال نيلز بوهر: ان تركيبا نظريا اساسيا جديدا في الفيزياء الحديثة, يتطلب افكارا مجنونة جديدة كلية, افكارا تبدو غير متوائمة مع الحقائق الثابتة للعلم فان ذلك كان قولا عقلانيا الى اقصى حد,

او اذا استخدمنا كلمة اخرى كان تناولا كليا لمسألة ذات اهمية حيوية للمزيد من تطور العلم الطبيعي, وصولا الى تطور الفكر البشري وتقدمه وتكامله.‏‏

هذه المقدمة الهامة تشكل مفتاحا رئيسيا للدخول الى عالم المحاضرة التي القاها الدكتور المهندس نبيل طعمة في المركز الثقافي العربي بالمزة يوم الخميس 14/7 وهي محاضرة تتفرد بخصوصيتها المنهجية القائمة على الربط بين حلقات الفكر الانساني في اطار فلسفة تكوين هذا الفكر وتشكله.‏‏

واللافت في هذه المحاضرة انها طرحت قضايا كثيرة بتكثيف غير مخل بحيث تبدو كل قضية ذات اشكاليات مثيرة ومستثيرة ومحفزة الى الاجابة عن كثير من الاسئلة المتعلقة بالوجود والمعرفة ضمن فلسفة التكوين بأبعادها الثلاثة: المادة والشفافية والفكرة.‏‏

واذا كانت المحاضرة قد ركزت بكثافة على فلسفة التكوين الفكري فانها قد انبنت في مجملها على الحوار كأداة لفهم آلية التكوين ماضيا وحاضرا, ولهذا تناول المحاضر البعد التاريخي للحراك المنتج للفكر في ان صراع المذاهب الفلسفية لا يعني حرباعلى الفلسفة نفسها وانما هو منبع الثراء المتوالد من تناحرية السلب والايجاب وهذا الثراء هو الذي نعرف من خلاله معنى الحياة الانسانية ومعنى التاريخ وطبيعة الانسان وعلاقاته بالطبيعة وبنفسه ومعنى حرية الارادة والمسؤولية وسوى ذلك من المفاهيم المتصلة بالحياة والفكر.‏‏

وعليه فان تساؤل الدكتور طعمة عن الفلسفة ما هي إلا تساؤل عن مصير البشرية استنادا الى فاعلية الفكر سلبا او ايجابا وهو من جانب آخر ينطوي على تقييم للعقل والعلم وصولا الى فكر انساني متواصل وهذا لن يكون في رأي الدكتور طعمة الا اذا تعلم الانسان ترتيب الفكر وتطوير درجاته وربطها ببعضها مثل كتاب او مثل قوس قزح بحيث نسلسل اللغة المعرفية التخصصية كما نسلسل ألوان قوس قزح فنجد فيها ما نطلب من أجزاء ضمن الترتيب الفكري لنستعين به آخذين منه حاجاتنا وإن وجدنا به خللا اصلحناه او اضفنا اليه ما يبقيه قويا ومرتبا ومتقدا عند الطلب.‏‏

وقد قدم الدكتور طعمة لفتة ذكية جدا حين اشار الى ان التكوين موجود في كل شيء وفي حياة الكائنات العاقلة وغير العاقلة كتكوين ممالك النحل والنمل, وهي اشارة الى التكوين المنظم المنضبط الذي يحقق في نهاية المطاف السعادة المنشودة فالحياة التي لا تمتلئ بالسعادة النوعية لسد فراغ الحاجة الفكرية والجسدية ستكون حياة بلا معنى لان مصدر السعادة هو في التوازن ما بين الفكر والنفس وفي التفاعل الحار بينهما لانتاج الفكرة الخلاقة التي تولد حركة الفعل والانفعال ومن ثم تحقق التكوين .‏‏

ان المحاضرة كانت درسا انسانيا اراد من خلاله المحاضر ايصال رسالة فحواها: اننا لا يمكن ان نحقق سعادة بشرية الا بفكر انساني تولده العقول النقية والنفوس السليمة على قاعدة ثلاثية متساوية الاضلاع مرتبط بعضها ببعض ارتباطا عضويا وهي الفلسفة والفكر والتكوين .‏‏

علاقة العمودية متمثلة في علاقة الطلب بين الانسان والاله وهي علاقة وصفها المحاضر بأنها علاقة تأمل ورفع ووقوف, في حين تتمثل العلاقة الثانية الافقية على المستوى البشري في ارتباط الانسان بالآخرين عبر الحوار, وهذا يعني ان العلاقة البشرية كما يرى الدكتور طعمة تتم بالتقابل في كل اشكالها وتنوعها, ومن خلال الحوار بين البشر كمستوى افقي يحدث التقاطع مع العلاقة العمودية ويتشكل تكوين جديد على هيئة التقاطع في الصليب والتكبير في الهلال .‏‏

وهاتان العلاقتان الافقية والعمودية كانتا كما يرى الدكتور طعمة محور الحياة تكونا وتكوينا وتطورا ذلك لأن غاية الحوار بين البشر تكمن في ان نطور الادوات المادية والفكرية القائمة على المشاهدة من خلال رؤية الواقع الثابت والمتحرك عبر البحث عن كيفية الاستفادة من الفكر المتناثر في اطراف الارض, وعبر التبادل المعرفي بحيث تؤدي فلسفة العلم الى ترتيب الافكار وايجاد درجات الصعود المنطقي وابعاد الفوضوية الفكرية المتفشية اليوم وزيادة التكوين الفكري والابتعاد عن العشوائية المؤدية الى الانحلال الفكري وشيوع الفقر المعنوي بين البشر .‏‏

ان طرح الدكتور طعمة السابق يحيلنا بوضوح الى حقيقة حاجتنا الى الحكمة بوصفها المثل الاعلى السامي للمعرفة والسلوك لأن قوام الحكمة التقيد بنظام الاشياء والتكوين الفكري نظام قبل كل شيء.‏‏

ومنذ ا لقديم اشار هرقليطس الى ان على المرء ان يتبع الكلي مهما كانت توصيفات هذا الكلي ومسمياته وجزئياته.‏‏

ومن هنا فان اهم امتحان للعقل البشري حتى يصل الى تكوين فكري على اساس فلسفي يتجلى في ادراك حقيقة ان الحكمة هي الطريق السليم لفكر بشري ذي اهمية بحيث تصبح جنبا الى جنب مع العلم في فهم علاقتي الانسان بمستوييهما العمودي والافقي دون ان يعني ذلك ان تتحول الحكمة نفسها الى علم محض لأن الحكمة لا يمكن ان تكون مثلا اعلى للمعرفة وانما هي خلاصة تراكم للمثل العليا المتولدة بفعل التطوير الاجتماعي والتاريخي .‏‏

من هنا جاء تأكيد الدكتور طعمة على ضرورة الاحترام والاخلاص لثقافاتنا المتنوعة التي انجبت حضارات متعددة عبر العصور وذلك باجراء عملية استرجاع واستلهام لها دون قطيعة مع ثقافات الاخرين وحضاراتهم لأن التواصل فضيلة مطلوبة لتكوين فكر انساني ايجابي. وفي سياق المحاضرة تطرق الدكتور طعمة الى الفلسفة مشيرا الى ضرورة حضورها الباطن والظاهر وقد تساءل قبل عرضه للفلسفة كمشكلة في ذاتها التساؤلات التالية: هل الفلسفة هي الثقافة بذات عمقها ? وهل هي الظاهر والباطن والمحدد للعلاقة بالوجود والموجود?وهل تركيب الاشياء فوق بعضها فلسفة العلم ام علم الفلسفة?‏‏

ان تلك التساؤلات المتشعبة ما هي في جوهرها الا اثارة منطقية للوصول الى الارضية التي يمكن ان يبنى عليها التكوين الفكري .‏‏

فمنذ القديم لم نقع على اجابة محددة لماهية الفلسفة ويمكن ما اراده الدكتور طعمة هو كيفية ربط علاقة الوعي الفلسفي بخبرة الانسان التاريخية واليومية وصلته بالعلوم وبالحاجات والمصالح الاجتماعية المتبدلة وبما يساعد على تكوين فكري انساني يمكن وصفه وتقنينه واخراجه من العشوائية والفوضوية في عالم صاخب متضارب.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية