|
ثقافة متحدية الأعراف والتقاليد النقدية والاجتماعية السائدة آنذاك بكل تشددها وثقلها وتطلبها أن ينتمي الشعر إلى عالم الوزن والإيقاع والترنيم، إلى جو القرار الرخيم المتولد عن الروي والقافية فأظهرت بذلك جرأة وشجاعة فائقتين باسلتين في اختراق الباب الضيق لسيطرة الشعر الكلاسيكي في مرحلة ظهور ديوانها هذا فكانت من أوائل الرائدات في استبعادها الموسيقا الخارجية العروضية المعروفة في الشعر السلفي واستبدالها بالموسيقا الداخلية أو موسيقا الفكرة تنساب كالحلم الشفيف في قصيدتها أو الموسيقا المعبرة بترجيع الأحرف اللفظي ترجيعاً يعتمد على إيراد الجمل القصيرة الموجزة والأنساق اللغوية المتماثلة في حجم صياغتها المتشابهة بالمسافة الزمنية المتساوية وقد انسرب مثل هذا إلى تركيب القصيدة عندها وموسيقية بنيتها: لاشيء غير الجمر كل أحبائي فيه أو راحلون إليه كالمصابيح المطفأة في المنفى القلب من المفيد هنا أن نذكر أن سنية صالح ابتعدت قدر الإمكان في قصائدها وفي هذا الديوان بالذات عن التكرار أياً كان نوعه وفق الطاقة لتحافظ على بنيتها المتشددة لنصها دون ترهل يصاب به كما جانبت السرد الآلي الجاهز والصور الغرائبية المتصنعة في قصيدتها إذا لم تكن لهما وظيفة معنوية وجمالية ترتقي بأدائها وقد جهدت سنية صالح في توفير طاقة لغوية معوضة عن فقدان الوزن العروضي في قصيدتها حيث نراها تشحن مقطوعاتها بإيقاعات التقطيع اللغوي لجسد العبارة العربية المترهل نفسياً في كتابته بسبب جاهزية التقنية الكلاسيكية لصياغة الجملة الشعرية على المعايير والأسس المتداولة والمتعارف عليها منذ القديم الواغل في تاريخية شعرنا العربي تكتب الشاعرة في بوح داخلي عميق: جئناك أيها الزائر الإستوائي نعشق رائحة أرضك ونلبسك وننام وهكذا لم تغفل سنية صالح عن هذه الحقيقة، حقيقة التعويض عن انعدام الوزن الشعري المتوارث في قصائدها بالصورة الشعرية المشحونة شحناًَ قوياً مضطرماً بالانفعالات والمشاعر وبالألوان الجمالية والرؤى الروحية الهائمة والمعتمدة أساساً على الفن الاستعاري بما فيه من تجسيم وتشخيص يتعمقان بناء اللغة وضمائرها وأفعالها وصفاتها، مستذكرة في ذلك كما يبدو مقولة أرسطو المشهورة وهو يخاطب الشاعر: (إن أعظم شيء أن تكون سيد الاستعارات، الاستعارة علامة العبقرية، إنها لا يمكن أن تعلم.. إنها لاتمنح للآخرين) وتأسيساً على هذا ومن منطلقه احتشدت قصائدها بفيض من الصور الشعرية الاستعارية مانحة إياها كما هو الشعر العظيم طعم المرارة والملوحة تعبيراً عن عالمها الداخلي الغريب الممزق ووطأة معاناتها الوجودية الكونية الضاغطة. ألف حصان يصهل في دمي أتدرع بموتي أرضع جوع الذئاب، أمتطي شعر الريح، ألبس الليل ومن ناحية أخرى فإن هذا التشخيص الاستعاري قد تجسدت مفاعليه بالطبيعة في تجربة سنية صالح الحياتية والشعرية والنفسية والفلسفية، فبدت تلويناته وتمويجاته في هذه النقطة بالذات أشد حضوراً وأوسع مساحة من غيرها بشكل واضح وجلي وبحساسية عالية مرهفة، فالشاعرة تقول للطبيعة في «زمانها الضيق» أشياء لايقولها البشر غير الشعراء إنها تبشر بعالم مسكون بالهاوية والزرقة.. والشهوق والظلمة.. وتهلل للريح تأتي بالشتاء وللمطر تتشربه تربة النفس العطشى للري قبل تربة التراب. نعيش فصل الحب كالحشائش نبحث عن أرض صغيرة وحين يأتي المساء ننهض كالضباب فوق الأعشاب ولكن سنية صالح لا تعيش غربتها الروحية ورؤاها الشعرية منكفئة على ذاتها في أعالي برجها النفسي وتنسى العالم الخارجي وما يموج فيه من ظلم وعبودية وقهر واستغلال للإنسان، إنها تخرج من زمانها الضيق إلى زمان فسيح وتمد جناحها القاصي لترى مأساة الشعوب المستعمرة وقد أبهظها النير وهي ترزح تحت قيد الطغاة فلا تستسلم وإنما تناضل بلا هوادة في سبيل حق الحرية ومطلب الاستقلال وهدف السيادة، فتغني لهم ولملاحمهم الظافرة غناء نشيدياً حاراً وملتهباً وتندغم حنجرتها الثورية بحنجرة كفاحهم فتكتب للجزائر البطلة وهي تخوض معركتها الصامدة الضارية ضد المستعمرين الفرنسيين وتقدم مليوناً ونصف مليون شهيد من أبنائها قضوا أرواحاً طاهرة من أجل مجد وطنهم حراً سيداً فتقول من قصيدة لها بعنوان (أغنية للجزائر): لحم أطفالنا يفرخ الرعب قوس الرعب فوق المدينة يبحر في عينيك ياوهران موتنا مطر.. كما تكتب لأجيال جديدة تشعر بالغربة والغرابة، ولأحزان العصافير في رماد الخريف ولنبوءة شاعرة في احتضار امرأة مبكر وافاها الأجل عام 1985 ولها من العمر خمسون عاماً بعد معاناة طويلة قاستها مع مرض عضال. m. aLskaf@msn.com |
|