تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في لوحات الفنان الراحل محمد علي الحمصي ... نوافذ الضوء وأحواض الورود الشامية

ثقافة
الأثنين 27-8-2012
أديب مخزوم

قد يكون الفنان الراحل محمد علي الحمصي (1939 - 1996) من اكثر الفنانين السوريين ارتباطا بموضوعات الورود والزهورالشامية، حيث جسد أشكالها وألوانها في معظم لوحاته،

وكان مغرماً بها إلى أبعد الحدود، ربما لأنه كأن يبحث من خلالها عن فسحة تشكيلية، لا تفقد صلتها بتداعيات أحلام طفولته الضائعة والمنسية، في بيوت وأزقة وأحياء مدينة دمشق القديمة.‏

مناخ ثقافي‏

ولقد استعاد من بقايا معطيات ذاكرته البصرية، إيقاعات العمارة الدمشقية القديمة، بما تحويه من أصالة التراث والمكان، فهذه الأشياء لا نجدها أبداً في المدينة الحديثة، وهذا يعني أن هاجس الخوف من زوال هذه الأماكن الشاعرية، كان يشغله باستمرار، ولهذا كان يلجأ إلى تسجيل ما تبقى من عمارة دمشق القديمة في لوحاته التشكيلية، ومااختزنته ذاكرته من مشاهد مميزة وخاصة.‏

وخطواته الفنية التشكيلية المتجددة، ساهمت في ايجاد المناخ الثقافي المرتبط بمشاعر الحنين إلى الأمكنة المنسية، وساهمت بترسيخ الاعتقاد الإيجابي، بأن ما يجري فيها من تهديم وتشويه هو خرق فاضح للقيم الحضارية والتراثية.‏

هكذا اندمج محمد علي الحمصي مع طروحات التواصل الثقافي مع التراث كبعد حضاري في الزمن الراهن، لتحقيق إنسجامه مع الأمكنة الحميمية، والمجاهرة بحب المدينة القديمة، حيث كان يغوص في تشكيل عناصر البيوت القديمة، ويساهم في إعادة الاعتبار إلى الطابع المعماري الذي يميز ها، ويعطيها طابعها الحضاري المستمر والمتواصل عبر العصور، وكان يستعرض في لوحاته قبل أي شيء آخر (أحواض الزهور والورود والنباتات الشامية) ويقوم بتركيب عناصر مختلفة في اللوحة الواحدة (معمارية ونباتية وإنسانية) ويحمل مفرداته التشكيلية نكهة الأمكنة الحميمية المترسخة في الذاكرة والوجدان كبصمة لاتغيب.‏

ولقد كان يمتلك لغة اللون الدمشقي ويتعاطف مع ألوان الزهور والورود الشامية الطافحة بالخيال والشعر، حيث تطل هذه العناصر في لوحاته ضمن أجواء شاعرية ساحرة تقترب في أغلب الأحيان من الصياغة التعبيرية العفوية والغنائية.‏

رؤى الخيال‏

فقد حاول الجمع ما بين الرؤية الشاعرية المنفلتة من قيود الدراسة الواقعية وبين المناخية البصرية الشبيهة بالحلم، فلوحاته حلم بواقع جديد أو هي أشبه برمز لمناخ شعري تتجلى من خلاله عناصر الذاكرة المحلية المشرعة على مناخ لوني أكثر شاعرية مستمد من المناخ السحري الحالم لعمارة دمشق القديمة، المكشوفة على الشمس من الداخل والخارج معاً.‏

وعلى الصعيد الأسلوبي والتقني اقترب الراحل في لوحاته الزيتية من التشكيل التعبيري والرمزي (أحياناً) ووصلت ألوانه إلى حالات تتفاوت بين الشفافية والكثافة، وبين الوهج والقتامة، ووقعت مابين الصياغة الهندسية (التي تتكشف عبر الإيقاعات العمودية والأفقية التي تحدد شكل البيت) وبين الصياغة العاطفية المنفلتة من الرزانة الهندسية، والتي جسد من خلالها الحالة اللونية العفوية الشعرية والغنائية للمشهد المستمد من الواقع، ومن معطيات الذاكرة والخيال معا.‏

وفي كل مراحله الفنية، كان محمد علي الحمصي يعمل على استعادة بريق ذكريات طفولته، حيث رسم معالم اندثرت وتغيرت من مدينة دمشق القديمة، المنفتحة على التاريخ والحضارة، والتي تعانق شبابيكها كل ألوان الزهور والورود الشامية، التي سجلت زمنه الحقيقي، عندما أعلن من خلالها، عن خوفه المزمن من تجمعات الأبنية الاسمنتية، التي اغتالت كل فسحة خضراء، وقضت على رومانسية مدينة، كانت مسرحاً لتداعيات الحكايات الشعبية، التي تسكن الوجدان وتترك في القلب فسحة إعجاب ودهشة.‏

وهو لم يجسد عناصر وأجواء البيوت الدمشقية وأحواض الورود، بطريقة تسجيلية وتوثيقية، وانما أعاد صياغتها بخطوط خارجية مبسطة، مع التركيز على أجواء اللمسة العفوية أو المتحررة للون، وبذلك ألغى التفاصيل الجاهزة، في خطوات الوصول إلى حالتها الروحية الصافية أو إلى نسيجها اللوني الشاعري والغنائي، فإذا تطلعنا إلى لوحاته،لا تنطبع في أعيننا غير إيقاعات لونية بصرية، بحيث تتحول الزهور وأوراقها إلى تآليف لونية صغيرة أو لمسات لونية عفوية فيها الطرب الإيقاعي الموسيقي والتنويع العاطفي والوجداني.‏

من اللوحة الزيتية‏

إلى المائية‏

أما في لوحاته المائية التي قدمها في معرضه الأخير، فقد خرج عن تقاسيم الإيقاعات المعمارية، الحاملة باقات الزهور والورود، التي عرفتها لوحاته الزيتية، وحاول الوصول إلى لوحة تحمل تداعيات من أنغام تقاسيم ألوان المناظر الساحرة للطبيعة السورية بمختلف وجوهها. كأنه في مائياته كان يحاول التقاط كل لحن لوني تحمله ألوان الأرض السورية، على امتداد السهول والتلال والأعشاب الرطبة الدائمة الاخضرار والماء.‏

وفي لوحاته المائية التي جسد فيها مشاهد من الطبيعة المحلية، بقدر ما كان يتثبت بالإيقاع الواقعي الساكن والمتوازن، كان ينطلق وراء الحركة التي يشحنها التبقيع اللوني، الذي يحيل المنظر إلى المتلقي بشاعرية تبرز كإيقاعات انفعالية داخلية. كأن العودة إلى نبض النور الطبيعي، كانت بالنسبة له، محاولة لتنظيم التناغم والتوازن والتعادل بين أشكال وعناصر الطبيعة، لإبراز الإيقاع اللوني المتماسك مع نغم الواقع الطبيعي، وإظهار أناقة ألوان الطبيعة في حالات البريق والتألق والشفافية.‏

وعلى هذا نجد أن هواجس محمد علي الحمصي وأحلامه الفنية، كانت قادرة على ترويض مختلف الأنماط والمواد التلوينية (من زيتي ومائي وغير ذلك) للوصول إلى صياغات تقنية متنوعة تعكس قدرته على المجاهرة بالأزمنة التشكيلية، في احتمالاتها الدلالية التعبيرية والواقعية والرمزية.‏

فالانتقال من ملامح الانحياز نحو معطيات اللمسة اللونية التعبيرية التي تختصر الأشكال المعمارية عبر إطلالات الزهور والورود الدمشقية (في تجاربه الزيتية التي منحته خصوصية واستقلالية اسلوبية) إلى مظاهر صياغة المشاهد الخلوية للطبيعة السورية (التي وجدناها في مائياته الأخيرة) كشف عن قدرته في التنويع، واسترجاع كل إيقاع لوني شاهدته العين في الدار الشامية القديمة، وفي فسحات الطبيعة المحلية التي انحاز إليها في أعماله الأخيرة، وبحث من خلالها بصفاء كلي عن شفافية وشاعرية أعادت شيئاً من الانطباع الرومانسي عن سحر الطبيعة السورية وجمالها.‏

facebook.com/adib.makhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية