تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مؤتمر الوفاق العراقي.. دلائل وشهادة لسورية ومواقفها

دراسات
الثلاثاء 29/11/2005م
ميخائيل عوض

شهدت أروقة الجامعة العربية على هامش مؤتمر الوفاق العراقي الكثير من الأعمال والمحاولات لرأب الصرع والوصول بأعمال المؤتمر إلى خواتم إيجابية,

تطلق ديناميات تفاهمات وتوافقات عراقية عربية تؤسس لمرحلة جديدة في العراق بتوفير بيئة لحوار وطني عميق برعاية عربية وإقليمية بديلا عن الرعاية الأميركية, وعن دور وإملاءات قوات الاحتلال التي تفرض شروطها ومنطقها ومصالحها ويتعامل السفير الأميركي وقيادات القوات المحتلة على أنهم أسياد يأمرون ويجب أن يطاعوا بلا اعتراضات.‏

صدر البيان الختامي حاملا عناصر جديدة وجدية تعكس جديدا في الأزمة العراقية وتشير إلى اتجاهات التطور فيها: فنص البيان على الحق بالمقاومة والتفريق بينها وبين الارهاب, ورفض التكفير واستهداف المدنيين, والأبرياء, ونص صراحة بضرورة وضع جدول زمني للانسحاب بحيث يتم سحب القوات الأميركية من المدن خلال ستة أشهر وانسحاب القوات المحتلة خلال سنتين, وقيل إن هذا النص جاء بطلب من واشنطن في إشارة واضحة إلى أن أميركا دخلت طور وضع الجدول الزمني للانسحاب من العراق, والكلام هنا يتقاطع مع تصريحات وتسريبات كثيرة عن أن البنتاغون وضع خططا لتخفيض عدد الجنود الأميركيين في العراق ابتداء من أول العام القادم بمعدل متسارع تستبق به الإدارة الأميركية موعد الانتخابات النصفية في خريف العام ,2006 بعد أن تصاعدت حدة المواقف الداعية إلى الانسحاب الفوري من العراق ووقف مهزلة الاحتلال وممارساته مع ازدياد مناسيب الرفض الشعبي للإدارة الأميركية وممارساتها وفضائحها ورفض استمرار الاحتلال المكلف من دون جدوى.‏

برغم وجود تحفظات لهيئة العلماء المسلمين على فقرات أضيفت في اللحظة الأخيرة لكنها أعلنت العمل بموجب ما تم الاتفاق عليه في المؤتمر والمشاركة الحثيثة في التحضير للمؤتمر المزمع عقده في بغداد ربيع السنة القادمة.‏

من جانب آخر سجل برزاني اعتراضات حادة على البيان وما تضمنه من إقرار بالمقاومة وتوصيف القوات الأميركية بالمحتلة بينما أظهرت تصريحات لمنظمة بدر ومسؤوليها إشارات إلى وجود اعتراضات من جانبها على فقرات في البيان لجهة تسمية القوات الأميركية بالاحتلال الواجب مقاومته,أو في مسألة الصيغة الدستورية للبلاد بما يخص الفيدرالية,وأعلن الحكيم أنه عازم على إقامة إقليم في الجنوب والوسط بعد اكتمال العملية الانتخابية.‏

برغم ما تم من توافقات وتحفظات وما أعلن في البيان وما حصل من مصالحات وحوارات جانبية بين الأطراف العراقية مثل ,المؤتمر خطوة إيجابية يمكن البناء عليها.‏

انعقاد المؤتمر في الزمان والمكان المحقق,وما صدر عنه يسمح بالتعرف إلى مسائل مهمة, ويمثل إشارات قوية تدلل على اتجاهات التطور في الساحة العراقية خلال الفترة القادمة ويكشف عن تغييرات جارية من الضروري تلمسها والتعرف عليها نذكر منها:‏

- أن تكون المبادرة عربية,وأن تكون الجامعة العربية في بيت الوفاق العراقي وأن يخرج البيان من الجامعة أمر بذاته إيجابي ويدلل على حقيقة آلت بها سورية من اليوم الأول وطالبت بأن تحسم لأنها الحل الأوحد للحال العراقية قبل الغزو وبعده, فليس من أحد يستطيع المساعدة في لم الأزمة العراقية غير البيئة العربية والإقليمية وأن الجهد الأميركي والدولي ليس بذي جدوى,ومن شأنه أن يدفع الأمور إلى المزيد من التأزم الانفكاك.‏

- برغم أن الحضور الأميركي كان طاغياً ومؤسسا في المبادرة وفي أعمال المؤتمر وفي نتائجه وجدول أعماله وبيانه, إلا أن مجرد قبول أميركا ومسارعتها لتكليف الجامعة العربية بدور في العراق يعني أنها دخلت طور الهزيمة والتراجع,ويعني أنها افتقدت لأدوات وأدوار أخرى بما في ذلك دور الأطلسي الذي راهنت عليه ودور الأمم المتحدة الذي كانت قد دفعت لحصوله وفشلت, فإقرار أميركا بأهمية الدور العربي وبأهمية البيئة العربية والإقليمية في إدارة الشأن العراقي بما في ذلك توفير السبل والطرق لتأمين انسحاب هادىء للقوات الغازية والمهزومة يمثل تطورا إيجابيا في مصلحة العراق وتأكيدا لقدرة المقاومة وتثميرا لنتائج صمود الشعب العراقي ورفضه للاحتلال, ودليلا إضافيا على أن من راهن على هزيمة أميركا في العراق كان على صواب بعكس النظم والدول العربية والإسلامية والعالمية التي اندفعت تؤيد العدوان وتغطيه, فها هي أميركا تقر بصحة الموقف السوري بما في ذلك قبول المقاومة ومحاورتها والبحث عن مشتركات معها, واستضافتها أو استضافة من يمثلها في القاهرة بصورة علنية,الأمر الذي يفقد الحملة على سورية المصداقية والمبررات بسبب العراق.‏

- أن تقبل واشنطن وحلفاؤها في الحكومة والحياة السياسية العراقية نصا واضحا يقر بحق المقاومة وبجدولة الانسحاب بل أن تكون الجدولة بطلب من أميركا نفسها يعني أنها أقرت بصحة المواقف السورية من المقاومة العراقية والمقاومات العربية وحقها المكفول في الشرائع السماوية والأرضية والتعاقدات الدولية وذات الصلة, ويعني أنها رضخت للمنطق المحمي بدماء العراقيين وصلابتهم وتضحياتهم ما يعني مرة أخرى بعد لبنان وغزة بأن طريق المقاومة أقصر وأعقل من طريق التنازلات والاستسلام وقبول الإملاءات.‏

-أن تتدحرج الأزمة العراقية, من واشنطن إلى الأمم المتحدة, فالأطلسي, وتستقر في القاهرة وفي مقر الجامعة العربية يعني إعلاناً واضحاً بأن الحل في العراق لا يمكن أن يكون إلا عربياً, وفي العادة تعتبر القاهرة ومقر الجامعة هو المكان الأقرب إلى دمشق حيث يكون العلاج الحقيقي والواضح الحاسم, هكذا تدرجت الأزمة اللبنانية وهكذا تحولت في نهاية المطاف إلى دمشق التي نجحت وحدها في وقف الحرب الأهلية وإشاعة السلام الداخلي وأسهمت في بناء الدولة اللبنانية, ومن ثم دعم المقاومة التي ظفرت بانتصار عام 2000 ومازالت تتحالف مع سورية وخياراتها الوطنية والقومية برغم ما يجري في لبنان بعد اغتيال الحريري ووضع السلطة السياسية اللبنانية تحت الهيمنة الدولية والأميركية.‏

عبر مؤتمر الوفاق العراقي في القاهرة تتأكد حقائق وصحة مقولات التاريخ, والجغرافيا, والاجتماع العربي, فما حك جلد العرب غير ظفرهم, وهنا أيضاً نقف على صحة المواقف السورية وقدرتها على فهم التطورات والثبات في وجهها دون وجل أو خوف وتأسيس المواقف بناء على المعرفة الواقعية لسير التطورات المستقبلية, فقول الرئيس في خطابه إن سورية مهتمة وملتزمة بالهوية العربية للعراق وبوحدة العراق, وتخليصه من الاحتلال وجدولة الانسحاب الاحتلالي قول يشير بقوة إلى معرفة في آليات الصيرورة التاريخية نفسها وحاجاتها, وبالتالي فكل ما بذلته سورية, وما قدمته وما يفرض عليها وتقاومه يؤكد أن الموقف السوري هو الصحيح والمواقف الأخرى كانت هي الخطأ ومن أخطأ بالأمس يحاول العودة إلى جادة الصواب وإصلاح الخلل. الأمر إذاً يمثل شهادة قوية لصالح سورية وسياستها ومواقفها من حرب العراق ومن المقاومة وحقها, ومن رفض سورية أن تكون أداة أميركية في السعي لقمع الشعب العراقي وتصفية مقاومته.‏

-العراق الساعي إلى وقف النزف الداخلي, وإعادة ضبط عقارب ساعته مع الزمن العربي والإقليمي لن يكون له خلاص ناجز قبل الانسحاب الأميركي التام, وقبل أن تنجلي موازين قوى جديدة بنتيجة الهزيمة الأميركية تؤدي إلى تحجيم القوى والمجاميع التي جاءت مع الاحتلال وتواءمت معه وعملت بوحي توجيهاته, والعراق العربي المحرر لن يحتمي ويستقر سوى بتفاهمات عميقة بين القوى النافذة في البيئة الإقليمية والمحيطة وعليه فسورية الدولة الوحيدة القادرة على لعب دور الرافعة والمضيفة للتوفيق بين المصالح واستنباط المشتركات للأطراف العربية والإقليمية بما لها من علاقات متينة مع كل من تركيا وإيران, ومع مختلف القوى والمجوعات العراقية بسبب تاريخ من التعاون والثبات على نفس النهج والقيم والتوجهات, فالعلاقات العربية الإيرانية التي تجد بيئة لها في العراق لا يمكن لغير سورية المتفاهمة مع إيران على حل المعضلات حفاظا على عروبة ووحدة العراق أرضا وشعبا ومؤسسات وسورية التي تتطور علاقاتها بمعدلات كبيرة مع تركيا وقياداتها قادرة على توليف العلاقات والمصالح العربية التركية الإيرانية في عراق مستقر ومحرر يمكن له أن يتحول إلى بيئة حاضنة لتفاهمات وتطوير علاقات الأمم الثلاث ومعالجة قضايا الأكراد التي باتت مستعصية ومستحيلة العلاج إلا عن طريق تفاهمات ترتكز إلى المصالح المشتركة لتصل إلى السعي لبناء سوق عربية إسلامية تمهيدا لصياغة علاقات ما فوق قومية مثل الجاري في الاتحاد الأوروبي ومنظمة شنغهاي وميركوسور في أميركا الجنوبية والكاريبي.‏

في العراق, وفي أزمة المشروع الأميركي وفي تداعي القدرة الأميركية على البقاء طويلا في بؤرة الاستنزاف,وفي المبادرة الأميركية لتكليف الجامعة العربية وتنشيط الإدارات العربية للبحث عن مخرج مشرف للهزيمة الأميركية وتلزيم الجامعة العربية وتشغيلها في الملف العراقي,وفيما توصل إليه مؤتمر الحوار العراقي في القاهرة, إشارات ودلائل قوية ومؤشرات على الحاجات الأميركية والدولية وإلى ضغط الحاجات التاريخية لعودة الفاعلية للعرب وانتظامهم وإمساكهم بقضاياهم, وفي نتائج المؤتمر تأكيدات قوية وشهادات لمصلحة سورية التي لم تفرط بموقف أو بجهد أو بعمل رفضا للاحتلال وحماية للحق بالمقاومة.‏

المسار التاريخي يجدد نفسه, فمنطق المقاومات العربية يشق طريقه ويثبت من جديد أنها باتت قوة ومؤسسة للتطورات في المنطقة فالظاهرة التي تتكرر لثلاث مرات متتالية تصبح قانونا والقانون الجاري التأسيس له يتكرس واقعا معاشا فبعد الجنوب اللبناني غزة,وبعد غزة بغداد والزمن بات يعمل عربيا مقاوما.‏

سورية التي تتعرض لحملات ظلامية, وتتكالب عليها الإدارات الاستعمارية أبدعت عندما قررت أن خيار المقاومة أقل كلفة من خيار الفوضى ,فيها تكبر المقاومات العربية ومعها تنتصر وهذه شهادة أخرى من العراق عبر القاهرة.‏

كاتب لبناني‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية