تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الشاعر محمد الماغوط..يرثي قرينته الشاعرة سنية صالح

ثقافة
الأثنين 15-8-2011
ممدوح السكاف

يطيب لي أن أفتتح مطالعتي هذه بمخاطبة قارئي قائلاً له: إن لوحتي الكتابية المرسومة بالأحرف حول تجربة سنية صالح الشعرية وخاصة في ديوانها،

الزمان الضيق المنشورة في عدد سابق من (الثورة) تبقى منقوصة ما لم أعرض بإيجاز آراء زوجها الشاعر محمد الماغوط بها وبحيثيات حياته معها، قرينة وشاعرة وامرأة تمثل نمطاً مغايراً من النساء المبدعات له خصوصيته الذاتية في الروح والشعر والأسرة والأمومة والمرض وسوى ذلك من أبجديات رهافتها الفائقة وحساسيتها المفرطة كأنثى مسكونة بالهم والقلق ويمكن إجمال أهمها بتصرف في النقاط التالية مستقاة في منطوقها المحرر كتابة من قبل الأديب الشاعر الروائي خليل صويلح رداً على أسئلة وجهها هذا الأخير إلى الماغوط:‏

في بيت (أدونيس) في بيروت التقيت سنية وهي شقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس وحدث التعارف بيننا من خلال التنافس على جائزة جريدة «النهار» لأحسن قصيدة نثرية، وحين عدت من لبنان إلى سورية جاءت هي للدراسة في جامعة دمشق وساعدتها في استكمال أوراق تسجيلها، ثم نشأت بيننا قصة حب عاصفة.‏

سنية هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفاً صعبة لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة وأكبر من كون في غرفة واطئة بحي «عين الكرش» في «الشام» غرفة نصفية كنت أسكن، كان عليّ أن أنحني كيلا يصطدم رأسي بالسقف، تصف سنية صالح هذه الغرفة وتلك الفترة: «كان الماغوط يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مرّ على الوطن، وفي أحدها خرجت أبحث عنه.. كان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ماهو أمر منه وساعدني انتقاله إلى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار، غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن.‏

سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم.. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عديدة..».‏

كانت غرفة ضيقة ومسدلة الستائر كأنها غرفة تحميض وكان لدي بابور كاز وفرشة ومطبخ بحجم معلف الفرس ولم يكن عندي ما أفعله سوى قراءة الكتب، كانت سنية صالح وزكريا تامر يجلبان لي الكتب.‏

(تقول سنية عن الماغوط، كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية، كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعال على مايحيط بنا، كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية وكنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض، أو مبقعة بالقهوة حيث ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف).‏

كنت أعتقد أن الحب هو ذلك الارتجاف الذليل الخاطف في عروق الظهر،تلك النار المندفعة كماء الجداول حول الرئتين وأمام مصلب القلب حيث ينتهي كل شيء بمجرد تعقيم اليدين وترتيب الشعر أمام المرآة، إلى أن جاءت «غيمة» - أقصد سنية- وأحكمت اللجام الحريري بين القواطع وحكت بأظافرها الجميلة الصافية قشرة التابوت وأغلقت كل الشوارع ولملمت كل أوراق الخريف ووضعتها في أنبوب المدخنة للذكرى.. أو بالأحرى عندما جاءت لتقلب كل شيء رأساً على عقب وتجعل الكتب والثياب والأوراق وكل ماتزدحم به غرفتي الصغيرة أشبه بأسلاب حرب لاأعرف إلى من تؤول في النهاية.. وما أزال أردد مئات المرات في اليوم: إن حياتي من دونها لاتساوي أكثر من علبة ثقاب.‏

كانت سنية أمي ومرضعتي وحبي ومرضي، وكان رأيها أساسياً فيما أكتب، فإذا كتبت شيئاً وترددت أمامه ولو للحظة كنت أمزقه وأعيد كتابته من جديد.. أما إذا قالت «حلو» فكنت أحس باطمئنان كبير، إنها قارئتي الأولى ومعلمتي الأولى في الشعر وفي الحياة.. حين كانت مريضة جلست بقربها وهي على فراش الموت أقبل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر فقالت لي عبارة لن أنساها.. «أنت أنبل إنسان في العالم» على شاهدة قبرها كتبت: «هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في العالم» لم أزر قبرها في مقبرة «الست زينب» إلا مرة واحدة، حزني عليها لا أعرضه في المقاهي والشوارع: إنه إحساس شخصي جداً ومدفون في الأعماق دون شاهدة، سنية هي المرأة في كل ماكتبت، كانت كعروق الذهب في الأرض.. كل النساء من بعدها نجوم تمرّ وتنطفئ وهي وحدها السماء.. والآن نادراً ما أراها في أحلامي.‏

سنية شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها.. ربما آذاها اسمي، فقط طغى على حضورها وهو أمر مؤلم جداً، كما أنها لم تأخذ حقها نقدياً، فالنقاد لم يأتوا على ذكرها في مسار الشعر العربي المعاصر أكثر مما يأتي الملحدون على ذكر الله.‏

سنية كانت شاعرة كبيرة في وطن صغير، وبين نقاد صغار.. وفي اعتقادي أن ديوانها الأخير «ذكر الورد» الذي كتبته وهي على سرير الاحتضار بين باريس ودمشق من أجمل وأعمق ماكتب عن الإنسان العربي في هذا العصر.. إنها أكبر شاعرة عربية لانازك الملائكة ولا غادة السمان ولاأي شاعرة على الإطلاق.‏

في حياتي كلها لم أتفق معها، نحن من عالمين مختلفين رغم تشابه ظروفنا، عالمها رومانسي حالم روحاني صوفي، بينما كان عالمي يغوص في الوحل والأرصفة والشوارع والبول والقسوة والسكر والعربدة، ومع ذلك كانت حياتنا جميلة، ثلاثين سنة وهي تحملني على ظهرها كالجندي الجريح وأنا لم أستطع أن أحملها بضع خطوات إلى قبرها، إنها «يتيمة الدهر» وكل الدهور.‏

راجع كتاب (محمد الماغوط: «اغتصاب كان وأخواتها»- حوارات حررها خليل صويلح- الصادر عن دار البلد عام 2002) فالمقبوسات السابقة جميعها مأخوذة عنه.‏

في نهاية هذه المطالعة لابد لي من القول إن التجربة الشعرية لسنية صالح تشكل عالماً شعرياً ثرياً مفعماً بالوداعة ينبع من التراب المأهول بالإنسان والطبيعة الصامتة والحية يتغلغل في حالة الكائنات الصغيرة الوحيدة المعزولة خلف صحراء السكينة، ويتصل بالدنيا عبر كونها الحافل بالنبات والأشياء وفردوس الحلم، ومن بين كينونة الأعشاب والمياه والجنادب يتئم بالقضايا الوطنية والعالمية ليرفع حداءه النبيل من أجل غد أفضل للوجود البشري، ويغني بلغة مورقة بالشفافية والحنين، تتوهج بعفوية الموهبة وعذوبتها وإشراقتها ما يقتضي منّا- نحن متلقيها ونقادها- استعادة قراءتها في جماع أعمالها الشعرية لأهميتها كمبدعة وخصوصيتها كشاعرها وتبكيرها في مواجهتها السلفي على صعيد الشكل تحديداً بوقعها النوعي وجوها المميز على الرغم من مرور نحو نصف قرن على صدور «الزمان الضيق» في زمن كان فيه بعض فسحة وواحة أمل لتجارب الاختراق والمواجهة وعناوين الحداثة الجادة البناءة النبيلة المقصد.‏

m.alskaf@msn.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية