تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار... ابتسامة امرأة نحبها تنسينا فظاعة الموت!

آراء
الخميس 18-8-2011
ياسين رفاعية

ماذا يحدث عندما نموت؟!

سألت نفسي هذا السؤال عندما مت فعلاً وعدت، كنت أعاني، وما زلت، من قرحة في المعدة أكرهتني حياتي لكثرة ما تؤلم وما تحبط حياتي، ما يجعلني في توتر مستمر لم أترك طبيباً إلا وراجعته،‏‏

لكنها بين الحين والآخر تغدر بي وتنزف ما كان ذلك يعرضني للخطر في كل مرة، وفي كل مرة أجد من ينقذني في اللحظة الأخيرة فأنجو.‏‏

وذات يوم نصحوني بطبيب مشهور في معالجة هذه اللعينة القرحة، فوعدني أن يشفيني منها تماماً إذا اتبعت تعاليمه تماماً كما يصفها، طبعاً وعدت الطبيب المخضرم أن ألتزم تعاليمه بكل حذافيرها.. فوضع لي قائمة غذاء طويلة علي أن أباشرها منذ اليوم، ومنعني من التدخين، وشرب الكحول، ومنعني من كل أنواع الطعام الحار والفليفلة الحمراء التي كنت أحب تناولها مع صحن متبل الباذنجان الذي أحب أكله وأطيب من خروف محشي بالأرز البسمتي الشهير والسمن العربي الذي كنت استحضره من دير الزور، غير هذا كله وصف لي وصفة طبية عبارة عن دواءين علي استعمالهما معاً، وأكد علي أنه من الضروري استعمالهما معاً، ذهبت إلى الصيدلية فعثرت على الدواء الأول ولم أعثر على الثاني، بحثت عنه في كل صيدليات المدينة دون جدوى، وبكل غباء من لا يعرف شيئاً عن الأدوية استعملت الأول متذكراً أن الطبيب حذرني بأنه علي استعمال الدواءين معاً، ما حصل بعد ذلك أن نزيفاً حاداً داهمني عندما كنت نائماً فاستيقظت مرتعباً وأسرعت إلى الحمام لأفرغ ما في جوفي، وكان دماً أحمر قانياً ثم أخذت أشعر بالتلاشي، مع الشعور بأن ألم القرحة قد زال تماماً، ظننت وأنا في هذه اللحظة من التلاشي، أن الدواء قد أزال الألم فلماذا حصل هذا النزيف؟‏‏

كنت مستنداً إلى المغسلة أنظر إلى وجهي في المرآة وقد بهت واصفر كالليمونة، فشعرت أن الحياة بدأت تنسحب من جسدي وأنني أموت فعلاً، في تلك اللحظات لم أفكر إلا بنفسي، إذ شعرت بارتياح عجيب لأن الألم الموجع قد زال تماماً، ورأيت ظلالاً تتماوج أمام عيني، ثم غاب عني كل شيء، فاستسلمت، وأهم التغيرات التي شعرت بها هي اللحظات الأخيرة، حيث اختفى تماماً الخوف من الموت، والغريب أن وعيي ظل في يقظته بأهمية الحب، وتولد لدي انطباع بأن هناك رابطة قوية قد قامت، فجأة، بيني وبين كل شيء من حولي، بالإضافة إلى ذلك مررت بتلك التجربة المذهلة في أن أرى أن هناك حياة أخرى أدخلها الآن، حياة مجهولة، مموجة بألوان الأخضر والأصفر فهل أنا أموت الآن؟‏‏

فعلاً ماذا يحدث عندما نموت؟‏‏

في الحقيقة إننا عاجزون عن الإجابة عن هذا السؤال، ومع ذلك كما تذكرت دائماً أن كثيراً من الناس العاديين عاشوا معجزة في الإطلالة على العالم الآخر، عالم يفيض بالحب والعطف لا يمكن الوصول إليه، إلا بعد القيام بتلك الرحلة المدهشة داخل النفق.‏‏

هذا ما حدث لي فعلاً، لقد استيقظت على نور باهر ومكان فسيح لا أعرف إن كان في السماء أو في سهل أخضر أو فوق مياه البحر، كنت أشعر أنني روح تطفو هنا وهناك، وثمة إحساس وشعور بالأمن وزوال الألم، وهكذا عبرت النفق والتقيت بكائنات من النور، ثم أخذت أستعرض حياتي منذ وعيتها حتى تلك اللحظة الباهرة من الجسد إلى الروح، ورحت أشعر أنني أصبحت متهيئاً للصعود إلى السماء سريعاً، وأبديت رغبتي في عدم العودة إلى الأرض.. إلى هذه الحياة الملأى بالآلام والحزن، وهكذا، أخذ الزمن يتلاشى، ليس مثل ما يكشفه الوقت لنا في الساعات والدقائق، بل إنه كثيف جداً، أشبه بالأبدية.. وما كانت الحياة اليومية تفرضه علينا زالت وانفلتت قيوده، وبت أستطيع أن أتنقل حيث أشاء، ورأيت أنني أسبح فوق جسدي المهترئ في تلك الفترة التي فارقت فيها الحياة، عندما عبرت النفق المظلم التقيت بأقارب لي ميتين، أمي، أبي، زوجتي، ابنتي ذات السابعة والعشرين من عمرها، والذي رحيلها غرز شوكة في قلبي، كانوا كلهم مشرقين بأنوار غريبة حتى إن هذه الأنوار أحاطت بي من كل جانب، وانتبهت إلى أخطاء كثيرة ارتكبتها في حياتي، خيانات زوجية، يدي وأنا طفل تمتد إلى جيب أبي لأسرق مالاً منها دون أن يعرف، كذباتي الكريهة التي كنت أتصور أنها تنقذني من مآزق عديدة، وأحياناً كرهي لأشخاص تعدوا على لقمة خبزي وآخرين حاربوني في مواقع عدة من حياتي وتمنيت لو يتاح لي أن أقتلهم أيضاً، كان هذا الجانب بشعاً في حياتي الأرضية، وتمنيت لو أنني إذا عدت إلى الحياة أن أزيل كل هذه الشوائب التي علقت بي عبر الزمن، بل تصورت أنني إذا عدت إلى الحياة سأقوم بالاعتذار من كل الذين أسأت لهم عن قصد أو غير قصد، لقد أحسست أنني أصبحت أكثر مسؤولية في مجرى حياتي التي من المفترض أن أعود إليها، خصوصاً تجاه أفعالي مع الآخرين، كما تولد لدي شعور عميق بتقدير الوجود.‏‏

وإنني لأتذكر في الصعود إلى السماء شعرت أن يداً حنوناً تخلع عني ملابسي بدءاً من الجوربين إلى ربطة العنق، وعندما نظرت إلى صاحبتها فإذا بي أمام زوجتي أمل جراح التي رحلت عني قبل خمس سنوات وإلى جانبها ابنتي التي رحلت عني بعد رحيل أمها بسنة واحدة، قالت أمل: تأخرت.. لكن لا نريدك الآن..؟ وما أن تعريت حتى ألقت علي عباءة بيضاء تشبه الكفن، ثم أشارت بيدها أن أعود.. قلت: ها أنا ميت لماذا تريدينني أن أعود.. فقالت: لا.. لا.. لم يحن وقت رحيلك إلينا.‏‏

من الصعب إنشاء خط فاصل بين الموت والحياة، إننا نتعلم شيئاً فشيئاً ماذا يعني الموت؟.. ولكن البحث عن كيفية حصول الموت يبقى محيراً لأنه يكمن خارج حدود طاقتنا.‏‏

عندما صحوت من هلوستي بعد ثلاثة أيام وأنا بين الموت والحياة، اكتشفت أنهم ضخوا بي أكثر من ست عبوات من الدم حتى عادت إلى وجهي مظاهر الحياة والانتعاش والخروج من النفق، فكانت تلك التجربة هي إلقاء نظرة على الحياة بعد الحياة، إنني لم أملك أي دليل على أن جزءاً مني بقي حياً بعد موتي، إن فقدان هذا البرهان جعلني أصمت أمام إلحاح ذلك الطبيب الذي عالجني وأراد أن يغور في أعماقي ليعرف ما إذا كنت قد وعيت الحالة التي كنت فيها، وما إذا كنت فعلاً قد شعرت بأنني مت ثم نجوت بالمعالجة المكثفة التي كان يتباهى بها أمام أقاربي وأنه أنقذني من الموت.. في الواقع ما كنت أريد النجاة، فها أنا بعد تلك الفترة الرهيبة أعود إلى الحياة المؤلمة التي تلاحقني دون توقف، بينما عشت معجزة في العالم الآخر، عالم يفيض بالحب والعطف لا يمكن الوصول إليه إلا عندما يموت المرء ويقوم بتلك الرحلة المدهشة داخل ذلك النفق، فحياتنا في الأول والآخر مجرد نفق أسود أو رمادي، وعندما تظهر تلك الكوة من النور نكون قد نجونا وذهبنا إلى عالم آخر زاخر بالحب والحنان والعطف.‏‏

هل هذا صحيح؟‏‏

لا أدري وأنا أجتاز عتبة المستشفى على قدمي كما وعدني الطبيب، إذ بالأحزان تعود إلى أعماق نفسي، فها أنا وحيد كشجرة متفردة في الصحراء، لا شيء يقيني من شيء.‏‏

هل ندمت على العودة؟‏‏

أكيد.. لكن ابتسامة امرأة نحبها تجعلنا ننسى كل هذا السواد، ابتسامة وحدها القادرة أن تقول: دعك من هذا الحزن.. لأن النهاية مقبلة مهما حاولنا تأخيرها وما عليك إلا أن تبدأ حياتك من جديد.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية