تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


على ضفاف الذاكرة.. بحرٌ من الأشواق

الجولان في القلب
الأثنين 22-8-2011
ميساء الجردي

على صخور الصبر القاسية تتجدد الأمنيات وتنشط الذكريات لتكشف عن طبيعة وطقوس حياة انسانية يُحتذى بها لأهلنا الجولانيين. معجونة بمحبة الأرض وعفوية الطبع وعذوبة النفس فكان الوجود الأسمى لحياة اجتماعية انسانية راقية.

وفي كل مرة نلتقي بها أحد أبناء جولاننا السوري، تتجدد الأحاديث المؤثرة وتتزاحم العبارات في شوقٍ إلى سرد المزيد والمزيد وايصال كل مايجول في النفس إلى الأولاد والأحفاد.‏‏

وبعذوبة الحنين إلى أشجار الزيتون والتفاح والتين، وإلى نسمات كانت تقطع طريقها من فوق الأحراش محملة بأرق وألطف العطور الجبلية وبكثير من الشوق إلى شتلات الياسمين التي كانت تزين عتبة منزلهم.. يروي لنا الحاج أبو عبد الله كامل المحمود بعضاً من ذكرياته.. ومن طريقة عيشهم، فحدثنا عن حارته وأصدقاء طفولته وشبابه وعن طرقات وأزقة قريته واصفاً تلك التعرجات الترابية وكأنها جزء من عمره.. فقد كانت أدق التفاصيل تعني لي الكثير.. أغصان الأشجار التي كانت تطل عليه من نوافذ البيت ومن خلف الجدران الحجرية تتدلى على الطرقات والممرات.. ثم الشوق إلى بيوت تفنن أهلها في صنعها بين الطين والخشب والحجر البازلتي والقصب، ثم الينابيع والسواقي الجارية بين الحقول والأحجار الأثرية التي لم يكونوا حينها يدركون أهميتها ودقة صنعها.‏‏

يقول الحاج أبو عبد الله: كانت معيشتنا قاسية وبسيطة، فيها الكثير من العمل والكثير من الحب والفرح.. التربة والمناخ ووفرة المياه كانت مصدر الرزق والعافية.. ودعامة أساسية لحياة مختلفة ومتنوعة.. فقد كانت الزراعة هي النشاط الأهم لاغلب عائلات القرية والقرى المجاورة، وكان الأهالي يتنقلون بين زراعات صيفية وزراعات شتوية، وهذا يعني أن العمل مستمر ومتواصل بين الزراعة في البساتين البعيدة والحواكير المجاورة للبيوت.‏‏

وكنا ننام ونستيقظ على أحاديث الكبار وهم يتشاورون ويتباحثون حول محاصيلهم وأعمالهم ومنتوجاتهم وفي نهاية كل حديث تعلو الضحكات ويتجدد الوعد إلى اللقاء.‏‏

نعم كان الخير كثيراً والرزق واسعاً، ولا أحد يُنظر إلى ما يملكه جاره أو أحد أقاربه الا بعين الحب والعطاء والمعونة.. يخرج الناس في الصباح الباكر من بيوتهم وينسلون إلى أعمالهم.. يلتقون ويتصادفون أمام البيوت أو على الطرقات المؤدية إلى البساتين.‏‏

والأمر لا يختلف لدى نساء القرية، مضافاً إليه أحاديث مطحنة القمح والتجمعات في معاصر الزيتون وتنور الخبز ونبعة الماء القديمة قبل أن تصل المياه إلى البيوت.. وتغزل الأحاديث بنكهة الدعاء بالخير.‏‏

وفي حديث الأفراح يذكر أبو عبد الله مشهداً ألفه منذ أن تفتحت براعم طفولته، كيف كانت القرية بأكملها تنشغل في أيام الفرح ويتسابق الأهالي في ارتداء أفضل مالديهم من ملابس ومن زينة، كما يتسابقون في تقديم الهدايا والأطعمة والمشاركة في الطبخ والتحضير والضيافة، ففي الأعراس أو الأعياد كان الناس يأتون من القرى المجاورة مشياً على الأقدام بهدف المشاركة ويحملون معهم ما يستطيعون من خيرات.. فكانت تأتي البغال أو الأحصنة محملة بالبرغل والأرز والخضار والحليب والبعض يصطحب معه الذبائح التي تكفي لإطعام الجميع.‏‏

كنا صغاراً نجتمع للفرجة على الرجال وهم يرفعون الحلل الكبيرة ليضعونها على المواقد، فكان الدست مليئاً بالبرغل وآخر باللحم وآخر بالمرق وهكذا بحيث يكفي الطعام للجميع.. وكانت الحفلات عبارة عن أغان ورقص ودبكات شعبية يشارك فيها الصغير والكبير، الرجل والمرأة.. ويتفاخر البعض بمعرفة قول الشعر عن ظهر قلب، بينما زغاريد النساء تكلل أصوات الرجال.‏‏

.. وبكثير من الأسى يحن الحاج كامل إلى تلك الأيام ويتأسف على قريته التي دمرها الاسرائيليون.. وفي قلبه خفقان الشوق إلى سنوات عمره التي مرت في تلك الأرض الطاهرة أرض أهله وأجداده.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية