تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


فلسفة رجل من فراغ

رسم بالكلمات
الأثنين 22-8-2011
عماد موسى شعبان

ليله دامس لا محال, والسماء اتخذت نكوصه درساً من دروس الغياب, تنكسر النجوم فوقه خوفاً فتقع كأزرار الثياب على الرمل, لا تحدث صدى.

خياله اللامتناهي فاق تصورات البرزخ في العالم الآخر, فكان يكفي أن يمارس طقوس ليله وحيداً عارياً ليشهد القمر عليه أنه استكان لصمته, وليدرك أن عليه أن يكتمل دون نهاية شهره القمري.‏

في غرفته الفارغة من أي شيء, ينتحر دخان سجائره, ليعلو السقف فلا يجد مخرجاً فيموت الدخان هباءً, ويبقى شبحه مطارداً من أرواح تسكن جدران غرفته المهترئة .‏

شاء قدره ولم يشأ أن يبكي دون صمته مع كمنجات فقره تارةً, ومع صرير حشرات ليله تارة أخرى. يستعير ضوء الشمس سيفاً ليبتر أطراف ليله البارد, فلا يفلح, يغزوه برد أيلول بقسوة ليستسلم له من جديد ولا ينتظر الربيع.. حتى ربيعه بات سجناً يأسر ألحان روحه, تجره الديكة لفجر لم يشأ بعد أن ينمو.‏

هو سيد المباغتة يظهر كنجم سطع في آخر حفلة ليلية إلى أن يحل الصباح فتزيله خيوط الشمس الأولى ليرجع من جديد إلى نكوصه. هو كالغبار يطير بلا معنى في فضاءات الفراغ العبثي, يسافر بين القارات, تسوقه ريح عابرة إلى بلاد لا يعرفها, هو الصاعد بلا سلم نحو سماء شروده, فيقع كالزجاج على الرخام. تمر امرأة غجرية تلمّه وتجمعه سدى, فيعود متهشماً كورقة خريفية محروقة يكفي لنسمة هواء أن تحولها لرماد.‏

يفلسف الأمور عادة على طريقته, يشبه رجلاً متسكعاً تقمص شخصية اللامبالي, يلف أحياء نيويورك بحثاً عن زجاجات النبيذ التي لم تفرغ بعد, ليعرف مدى شعور شاربيها بالذنب, أو شعورهم بالنشوة بعد سهرة دامت حتى الفجر في إحدى الحانات الرخيصة .‏

هو سيد وقته يقلب في ذهنه أفكاراً تنحبس مع أنفاسه طيلة نهاره, ليطلقها في الليل مع دخان سجائره, فتطفو على سقف غرفته صوراً وأشكالاً, يرسمها ويفسرها , تارة تظهر له صوراً لنساء عاريات يرقصن أمام ملك طاغية, وتارة على شكل معركة في السماء بين الخير والشر ولا ينتبه من منهما انتصر. تتمثل أمامه أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة تومئ له بالاقتراب فينقطع المشهد بفكرة الانتحار.‏

في ليلة من لياليه يستعيد ذاكرة المدن الغابرة, ينظر إلى زاوية غرفته يلفت نظره كرسي خشبي صامت مهترئ, فيمثله بعرش ملك ما, كانت قد انهارت إمبراطوريته بعد حرب دامت سنوات, فيصبح بعدها كرسياً فقد هيبة الملك, ليرميه القدر في غرفة فقدت هي الأخرى هيبتها بعدما كانت ملاذاً لملائكة غابرة.‏

يغيب فجأة, كعادته دون أن ينتبه أحد لغيابه, و يرحل بصمت إلى دنيا الأموات, يحفر قبراً من سراب يغوص فيه ميتاً ولكنه لا يتمناه, تدور في رأسه فكرة الغياب نفسها, ويبقى ذلك السؤال الصعب يدور بجنون في خضم لياليه.. ماذا بعد هذا الموت؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية