تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مملكـــة الســـعداء

رسم بالكلمات
الأثنين 22-8-2011
فاديا عيسى قراجة

في هذا الجانب من العالم نعيش بفرح ودعة وبحبوحة عيش. قد نتصارع على متر زيادة, أو متر نقصان في أرض كل منا, ولكننا نعود مساءً أحباباً أكثر من ذي قبل, نبوِّس شوارب بعضنا,

ونولم ونحتفل و نغني حتى الصباح, ثم نزحف إلى فراش زوجاتنا وقد أخذ المشروب منا كل مأخذ, فنثير حفيظة الزوجات اللواتي يمضين النهار في المطبخ كي تكون الولائم على قدر المشاجرات, وعندما يجنّ الليل يسرّحن شعورهن, ويرتدين ما يفجِّر ذكورتنا, ويجلسن بانتظارنا, وعندما تقذفنا العربات أمام بيوتنا, تفوح روائح سهرنا, وتشخر صدورنا المعبأة بالزيت والنار, ثم ننبطح أمامهن كمذنبين وبعد دقائق ستبدأ معزوفة شخيرنا ونخيرنا وبعد تقلب وتمدد سوف نجمد كجثث محنطة غير مبالين بما تخرجه آهاتهن من سباب وشتائم ..‏

في هذا الجانب من العالم, نعيش بسلام فلا لعبة القط والفأر, ولا تسلية الماء والنار,ولا ترادفية الحق والباطل, ولا أحقاد مباشرة أو غير مباشرة تفتك بالعقول... كل منا يعرف حقوقه ويلتزم بواجباته.. والأهم من ذلك كله تقديسنا للسلف, واحتقارنا للخلف.‏

قد يتطاول ولي نعمتنا حفظه الله بكلمة غير مقصودة, قد يقطع بعض الألسن, قد يرهن أصواتنا , قد يخلع عنا اسمنا, قد تعجبه إحدى زوجاتنا, قد يسارع بعضنا كي يهبها له براحة ضمير, فهذا ولي النعمة وحاضر النقمة, قد يحتفظ بها لشهور, قد تختفي عن الوجود, لكن هذا لن يمنعنا أن نصفق له, ونحرق لأجله البخور, وننحر عند قدميه النذور, فهو رغم تقدمه في السن إلا أن له صبوة تفوق صبوة شاب عشريني, إضافة إلى أن له من الأسماء ما تخر لها الجبابرة, فهو الخادم, المخدوم, المانح, الممنوح, القابض, المقبوض, وهو صاحب المقولة الأشهر (طال عمرك ) لكل من يراه في الديرة حتى لو كان برغوثاً ..‏

في مملكتنا يطول السهر ويكون للطرب, والتمايل على وقع خصور الراقصات أجمل معنى وأمتع بهجة , وألطف عشرة ..‏

في هذا الجانب المترامي من العالم, لا تصفية حسابات, ولا تكدير سهرات.. ولا تنابز بالألقاب .. فكل المنغصات مباحة في النهار( اضرب.. اشتم.. اسرق... ازن.. اقتل, حطم ..العن.. ارتش) أما الليل فهو خط أحمر لكل مفرقي اللذَّات.. الليل للسهر والمتعة لملاقاة الصباح بعقل مترنح, ونشوة متوهجة.. لضرب الأنخاب.. لتعرية الصدور.. لتفريغ القدور.. الليل لنسيان النسيان, وقهر القهر, وتجويع الجوع ..‏

إذاً هذه هي معركتنا الحقيقية, ليلنا ملك لنا نفعل به ما نشاء, قد يصادف أن نتحدث مع ولي نعمتنا حديث الرفيق, الصديق, أو حديث الصبي المراهق, المهم أن يكون الوقت ليلاً لأن ولي نعمتنا سيتحول إلى مجنون ظلامي يبحث مثلما نبحث عن رفيقة تنسيه تجبُّر زوجته, فهو يتندر بالطرف الماجنة مثلما نتندر, وقد يجلس على الأرض منتحباً ..شاكياً باكياً من جوره علينا, قد نلعنه, وقد نصفعه, قد نلتقط له الصور الخاصة التي تملأ أدراجنا, وقد نتحدث بالعلن ليلاً ما نخشى على ذكره سراً نهاراً, وقد نتغزل بجسد قوت القلوب زوجته, وقد نتحدث بسفاهة عن عجزه أمام فتوتها, وقد نصف له وبدقة ما يجري بينها وبين مسرور, وهذا لن يكون متاحاً لنا إلا في تلك اللحظات الاستثنائية ..‏

لله درك أيها الليل لا تنجل بصبح يقلب سحرنا علينا ..‏

لكن منذ فترة كادت أن تنهار مملكتنا, لولا حكمة وليّ نعمتنا لفقدنا لذة أعيادنا, و متعة طقوسنا أول شرارة بدأتها النساء, رفضن الدخول إلى المطبخ ما لم يشاركن جنباً إلى جنب معنا‏

فهن وحسب ما تناقلته الألسن يرقصن أفضل من سوسو المستوردة, ويقصصن الحكايات بشكل أمتع وأنضج من كتب شهرزاد الآفلة, ويتندرن ويطلقن الضحكات والتسالي مثلما نفعل.. والأهم بل الأخطر من هذا وذاك وحسب زعمهن أنه لديهن البراعة والحكمة في قيادة هذه المملكة السعيدة بشكل أفضل وأنجع من قيادة ولي النعمة وحاضر النقمة !!‏

تواردت هذه الأقاويل, وتضخمت, ووقفت عند أبواب ولي نعمتنا خائفة مرتجفة, رغم المنع, والحظر الذي قوبلت به من الحراس والكلاب, إلا أنها دخلت السراديب, وتناقلتها المحظيات, والخادمات وتبنينها, وجعلن منها قولاً على قول..‏

انتفض مولانا مذعوراً في سريره, جلس يحك لحيته المثلثة .. حدسه لا يمكن أن يخطئ ..‏

هناك شيء يُطبخ في الخارج.. عجزت أصابعه عن الوصول إلى الجرس الذي يتدلى فوق المخدع ... الأصوات تهمهم, الجدران تتهاوى! النساء أعلنَّ الثورة!‏

كانت (نهار) هي قائدة هذا التمرد, ركبت العربة وقادت زوجاتنا . سرقت من أدراج زوجها صوراً خاصة لولي النعمة وهو في أقصى لحظاته مجوناً, وشذوذاً وعرضتها على باقي النساء ..‏

استطاعت نهار أن تقنع زوجاتنا بالتمرد على نواميس مملكتنا.‏

بعد ثورة نهار, تغيرت عاداتنا, أُهملت بيوتنا, ارتفع عدد المطلقات والمهجورات والمشردات, وارتفع معدل بطالة الغانيات, وجلسن في الزوايا يتسولن الرغيف, ثم بدأ الزحف على القصر حيث مخدع المخدوعة, المخانة الخائنة ..المنبوذة, النابذة ..‏

هبّ ولي نعمتنا, أطل من شرفته, قال بصوت عجوز: هلا طال عمركن.. ابشرن يا أخواتي, ويا بناتي .‏

صمتت النساء وكأن على رؤوسهن الطير. أكملن الزحف حيث المخدع الذي حلمن برؤيته, والتمتع بألوانه, واستنشاق روائحه, والتلذذ برطوبته بعد أن سمعن عنه الأعاجيب, لكنهن لن يولين أي اهتمام لأحلام سادت ثم بادت. وقفت قوت القلوب أمامهن والحيرة تأكلها. اقتربت نهار وصاحت بصديقاتها: أخبرن مولاتكن عن سبب الزيارة .‏

صمتت النساء, ونكسن الرؤوس. حدثت جلبة في الخارج ..وقف قاضي القضاة بباب المخدع وقال: سأقرأ هذا البلاغ الآن, وعلى كل واحدة تسمع اسمها تنفيذ الأوامر والأحكام الصادرة بحقها وإلا ... نهار عليك حكم مائة جلدة والسجن المؤبد بسبب قيادة العربة, نجمة عليك حكم بالعدّة, نور عليك حكم بتسليم أولادك إلى أبيهم, شمس تم التصديق على قرار يصفك بالمرأة الناشز, قمر عليك حكم بالطاعة, كوكب لديّ تقرير طبي يثبت بأن زوجك عقيم, وقد يحال إلى القضاء لإثبات أبوته لأولادك ............ سناء هناك صور تخدش الحياء تجمعك برجل غير معروف ..‏

أُسقط بيد النساء, وبدأ اللغط والهمهمة بين صفوفهن, حاولت نهار أن تعترض وتعيد التماسك إلى جيشها الصغير لكن الجمع انفضَّ من حولها, وهرولت كل واحدة إلى شأنها, وبقيت قوت القلوب على وقفتها لم تلفظ ببنت شفا ..‏

وهكذا عادت النساء إلى سابق عهدهن أليفات, حنونات, صابرات, طباخات ماهرات, مربيات لأولادنا بصمت وتفان, وعادت ساحاتنا حمراء, متوهجة أكثر من ذي قبل, ورفعنا راية الولاء والتبجيل والتكريم لولي نعمتنا الذي أعاد الحياة إلى شراييننا وأسدل ليل أحلامنا من جديد ..‏

(خارج أسوار المملكة):‏

ملاحظة أولى: زُج بقوت القلوب في السجن بعد أن تبين أنها ساهمت في مساعدة نهار على الفرار ..‏

ملاحظة ثانية: ظهرت بعض الحركات النسوية احتجاجاً على اختفاء نهار ولكن كل شيء عاد لطبيعته وذلك بحكمة ولي نعمتنا الحديدية ..‏

ملاحظة ثالثة: بغياب نهار انخرط الجميع في ليل طويل.. ولا زال البحث عن نهار قائماً إلى يومنا هذا .‏

• هامش (مهداة لراحة نفس الكاتب التركي عزيز نيسن سيد التراجيديا السياسية)‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية