تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مقـارعة (العـدم).. عبـــر بــــرزخ مــــــن كلمــــــات!

ثقافـــــــة
السبت 27-8-2011
لميس علي

ليس من قبيل الصدفة.. وليس من باب المغامرة غير المحسوبة.. أوغير المتوقعة.. يمضون في مقارعتهم لعدو لدود.

مواجهتهم تبلغ ذروتها حين يبدؤونها على فراش الموت.. حيث لامهادنة.‏

وكأنما تبدى شبح العدم، تماماً قبالتهم بكل فجور وصلف، كان أكبر محفّز للنظر مطولاً في محجر عيني ذاك القابع أبداً في أعلى فوهة الزمن.. للتملي بهيئة ذاك السارق لشعلة العمر..‏

هل خالف لسان حال بعض من المبدعين ما نطق به يوماً الشاعر محمود درويش (مَن أنا لأخيّب ظنّ العدم)..‏

هل جاءت عبارة للتصاغر وإعلان الهزيمة قبالة جبروت الموت.. وأن لا كبير أمامه، على الرغم من كل تعاويذ الكلمة.. وعلى الرغم من كل تمويهات فنون الإبداع وحيله؟..‏

على فراش الموت، ازدهرت كلمات بعضهم.. ازدادت ألقاً ووهجاً.. حفرت في الذاكرة أكثر..‏

لكن.. لماذا كان الحفر بمثل هكذا ظرف أكثر شجاعة وأمضى في إبراز سحر (الكلمة).. وإظهار مالها من بريق قادرٍ على إخماد نيران (العدم).. والحد من حركة استطالاته؟ لعل المبدع -كاتباً أوشاعراً- أكثر الناس مضياً في خوض غمار المعركة.. مع عدو.. هوقطعاً غير كفء له..‏

ومع ذلك يبقى يهاجم لايهادن.. وسيلته أبداً زرع صفوف الكلمات.. هي النرد.. الذي يقذفه في وجه (العدم).. إثر لعبة وجودية قائمة منذ الأزل.‏

غالباً ما خطوا آثارهم كنوع من قهر لعنجهية ذاك العدم.. كلماتهم تبدوكجسر.. كنفق.. أومعبر مابين ضفتين.. إنها برزخ مابين حياتين..‏

أوليس الموت، بأحد تفاسيره، بوابة الآخرة؟.‏

ثم وإن كانت نتاجاتهم، بالعموم، هي أداة للحد من سطوة الموت.. عبر طرق باب الذاكرة كلما أُعيدت قراءتهم.. كيف هوحالهم.. وكيف توصف مواجهتهم لسلطة العدم؟.‏

هل هي الغواية.. أم إنه التحدي الآدمي في أكثر درجاته مجاهرة.. شجاعة.. ومحاججة؟.‏

الكثير من الكتابات ناقشت موضوعة (الموت) بشتى الأساليب.. لكن تأخذ المناقشة طعماً قارصاً أكثر عندما تصدر ممن عايش الموت.. من عقد هدنة معه.. ولسانه يلهج:‏

أن افسح لي المجال قليلاً حتى أجرب نكهة حياة تجردت من وهم الأبدية.‏

في كتابه (عن الذاكرة والموت) سرد المسرحي السوري سعد الله ونوس تفاصيل أيامه الأخيرة.. كيف تلقى نبأ أن حياته باتت أقصر من قصيرة.. ولم يعد له سوى القليل فيها..‏

(والآن ما العمل؟..‏

ووجدت نفسي أجيب: أن أغوص أعمق فأعمق في الصمت والعزلة، وأن أفك روابطي مع الحياة والأهل والأصدقاء وهذا العالم بكثير من الأناة، وأقل قدر من الضوضاء والعويل، لم يخطر ببالي أن أقاوم، ولكن في الوقت نفسه لم أكن متأكداً أني يائس.. كنت أطفوعلى مصيري دون فجيعة، وكنت أدخن سيجارتي بشهية طيبة..‏

ما معنى الشجاعة؟ وماذا تفيد الشجاعة رجلاً تقرر رحيله؟ ولماذا ينبغي أن أكون شجاعاً؟ لماذا لايحق لي أن أنهار وأن أعول، وأن أبكي كل سوائلي، باغتتني رغبة حارة بالبكاء، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين، لم أجد بعدهما ماأذرفه، أليس العجز عن البكاء هوجزء من هذا الخواء الداخلي الذي يهيئ موتي، ويعلن عنه؟).‏

وتظهر نبرة خاصة جداً لدى الكاتب في إيهامه القدرة على الانسلاخ من الحالة وكما لوأنه يكتب من خارجها.. وكأنه غير معني أبداً.. وكأنما من يواجه ذاك المصير ليس هوإنما آخر..‏

(تغلغت رائحة القهوة في صدري كأنها دفقة حياة.. لويستطيع المرء أن يحصي عدد الكلمات التي تفقد كثافتها وتغدولغواً بالنسبة للمحكوم بالإعدام! حقاً كم كلمة يحتاج المحكوم بالإعدام!.‏

ولكن ألم يخطر لي كثيراً أن أعيش (الآن) فقط، وكأن هذا الآن يشتمل لحظات الزمن الثلاث..‏

ولكن اللعنة! من يستطيع أن يخدع نفسه ليس بوسع المرء أن يفعل أويستمتع أويبدع، إلا إذا كان وهم خادع بالأبدية، يهدهد أعماقه، ويطامن نفسه).‏

ويمضي في درب مقارعة الموت، وجهاً لوجه، ذاكراً حالة الدنوأكثر من لحظة الذروة.‏

(في الغرفة «208» أدركت وأنا أتلاشى، أني سأواجه المصير الذي كنت أخافه دائماً، سأفقد حصانتي الشخصية وحيائي، وماهوحميمي فيّ.. وسأتحول قبل الموت، جيفة عارية بين أيدي ونظرات غرباء لا أعرفهم).‏

غرفة سعد الله ونوس تحيل الذاكرة إلى غرفة مريض مبدع آخر.. تبدت عنواناً لإحدى مجموعاته الشعرية.‏

أمل دنقل نقل يومياته، في غرفته بالمعهد القومي للأورام، معايشاً مرضه الخبيث إلى يوميات شعرية، فكتب مجموعته (أوراق الغرفة الثامنة)، التي تخيم عليها ثيمة (الموت)، ولاسيما قصيدتي (السرير) و(ضد مَن) اللتين تنضحان بمعاناته المريضة.. موصفاً حاله توصيفاً خارجياً وآخر معنوياً، فالشاعر أصبح مجرد رقم.. غارق في بياض يعمي (كل هذا البياض يذكرني بالكفن).‏

ذكر أحدهم أن صراع أمل دنقل مع الموت كان صراعاً بين متكافئين، الموت والشعر..‏

فهل قدر هؤلاء المبدعون النظر إلى الموت بعين محايدة.. هل استطاعوا مصادقته ولوعلى حين غرة.. لكسب الجولة الأخيرة، كخدعة أكثر من مشروعة في معركتهم غير المتكافئة بالأصل؟..‏

الجميل أنهم قدروا فقهروا ولوإلى حين..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية