|
شؤون سياسية بنماذج انفصالات شهدتها بعض دول العالم فهناك تيمور الشرقية التي انفصلت عن أندونسيا وهناك الاتحاد السوفييتي الذي خرجت من عباءته جمهوريات عدة وهناك يوغسلافيا التي تم تقسيمها إلى دويلات وبالتالي فإن انفصال الجنوب لن يكون الوحيد أو الأخير مثلما لم يكن الأول من نوعه طالما هناك أجندات غربية اعتمدت سياسة التقسيم والتفتيت وليس أدل على ذلك من كشف لهذه السياسة ما جاء في المحاضرة التي قدمها “أفي ريختر” وزير الأمن الداخلي في إسرائيل 2008م قال فيها: إن الخريطة لدول العالم العربي غير واقعية لأنها تتجاوز هويات الشعوب، وتحدث عن حتمية تقسيم البلدان العربية ومنها بطبيعة الحال (السودان لخمس دول والعراق لثلاث دول والسعودية لثلاث دول ومصر لثلاث دول وليبيا لثلاث دول). وبغض النظر عن رأي “أفي ريختر” في عدم واقعية الكيانات العربية ووصفنا له بأنه مجرد واهم إلا أن الحقيقة التي يجب أن نعترف بها أن ما كان وهماً أصبح واقعاً مكرساً نشاهده بأم أعيننا في بعض البلدان العربية والبقية قيد الانتظار إذاً هو واقع مؤلم لا يمكن تجاهله، وعلينا أن لا نخدع أنفسنا بالهروب إلى الأمام بالوعي حيناً وباللاوعي أحياناً لجهة الأخطار التي تتهددنا من المحيط إلى الخليج، رغم أننا ندرك جيداً أن انفصال جنوب السودان جاء في أحد جوانبه المهمة كنتيجة طبيعية للمشروع الحضاري العربي الإسلامي الذي ظل السودان يمثله وعليه ينبغي للدوائر الاستخباراتية الأميركية والإسرائيلية والغربية أن تعمل لصد هذا المشروع في المرحلة الأولى وتمزيق رسالته في المرحلة الثانية مثلما فعلوا من قبل في إضعاف المشروع القومي العربي باحتلال العراق والآن عبر مخططات الفتن في سورية. وبالنظر إلى واقع السودان الجديد فإننا نلاحظ أنه ستقل عدد الدول المجاورة إلى السودان من 9 دول إلى 7 دول وسوف تختفي دول كانت مجاورة للسودان ما قبل انفصال الجنوب مثل كينيا وأوغندا والكنغو، كما تقلصت مساحة السودان حوالي 700 ألف كم2 أي بنسبة 28 ٪ وأصبح 8 مليون جنوبي خارج التعداد السكاني للسودان، فضلاً على أن صافي فاقد إيرادات الخزينة يقدر بحوالي 2,15 مليار جنيه سوداني أي بنسبة 10٪ من اعتمادات الموازنة العامة وفقاً لتقديرات بعض المحللين الاقتصاديين ويعتبر هذا الفاقد من أهم قضايا السودان ما بعد انفصال الجنوب والذي تسببت فيه خسارة حصة النفط المقدرة بـ 40٪ الأمر الذي سيخلق نوعاً من الصداع للحكومة في المدى القريب، بالإضافة إلى قضية ترسيم الحدود حيث اتفق الطرفان على ترسيم 20٪ من الحدود المشتركة بعد جدل طويل بينما الباقي قيد المناقشة وأهمها منطقة “أبيي” التي تضم حقول نفط “الهجليج”. لذلك ينصب اهتمام الحكومة السودانية وبشكل أساس في تقديم رؤية استراتيجية جديدة تتناسب وحاجات السودان في المرحلة الحالية لتحقيق توافق وطني واسع وهذا ما عبر عنه الرئيس عمر البشير عندما حدد ملامح هذه الرؤية في خطوطها العريضة حين قال في حديث له في 18/7/2011م، موجهاً للشعب والحكومة، أن السودان بحدوده الجديدة سيكون أكثر قدرة على حسن الإدارة والدفاع والمطلوب هو إقامة علاقات جيدة مع دولة الجنوب قوامها احترام العهود والسعي الجاد لتعزيز الاستقرار ومراعاة المصالح المشتركة والمحافظة على الروابط الراسخة انطلاقاً من قناعة مؤداها أن الانفصال لا يعني الانقطاع بأي حال من الأحوال، وعليه فإن المطلوب هو ابتدار فرص الاستثمار وتحقيق النهضة ومواجهة النقص في البترول عبر برنامج يؤدي إلى خفض الإنفاق العام ومراجعة الأولويات وتنويع الإنتاج وزيادة الصادرات وتشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي. وإذا ما تم إنفاذ هذا البرنامج فإنه كفيل بفتح آفاق واسعة للنهوض والانطلاق في مجالات التنمية من خلال الشراكات الاقتصادية في البترول والمعادن والزراعة مع دول مثل الصين وماليزيا وتركيا والهند والبرازيل ومع الصناديق العربية في مشروعات تغطي كل ولايات السودان. من جانب آخر يمكن الاستنتاج بأن هذه الرؤية تعكس رغبة الحكومة السودانية في التحول السلمي نحو تحقيق نظام قومي وطني يجمع كافة مكونات المجتمع السوداني عرقياً ومذهبياً وثقافياً يضمن التوازنات الحيوية إلى حد كبير ويشير بوضوح أن فرضيات الصراع ما بعد انفصال الجنوب تغيرت بشكل كلي وجذري بحيث أصبح الصراع ما بين الشمال كشعب ودولة، والجنوب كشعب ودولة فهل تدرك المعارضة السودانية التي دائماً ما اختزلت الصراع على أنه ما بين المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية المسيطرة على مقاليد الحكم في الجنوب. وهنا نتساءل هل المعارضة جاهزة للتعاطي مع رؤية الحكومة والاستجابة بذلك لنداءات سكان السودان والداعية إلى المشورة الشعبية المفضية لحسم الخلافات الداخلية وطرح المعالجات الواقعية والموضوعية لكل قضايا السودان سياسياً واقتصادياً وأمنياً ودبلوماسياً بنهج قويم يرسخ دعائم الأمن والاستقرار، ويلبي احتياجات المواطنين ويتفاعل مع طموحاتهم وبالتالي يتجاوز السودان مرحلة الحروب إلى مرحلة السلام، وينتقل من مرحلة التعافي إلى مرحلة النهضة الشاملة ومن ثمَّ الدخول من أوسع الأبواب للبناء المتكامل فيما عرف سودانياً بالجمهورية الثانية. أم تبقى المعارضة متسمرة في مواقفها المناوئة والمناهضة للحكومة ومستسلمة لأجنداتها الخاصة على حساب العامة وبالتالي تفتح المجال للقوى الاستعمارية في أن تستمر في تحقيق مشاريعها المخادعة والمدمرة للقدرات الحيوية للسودان من أجل إضعافه وتمزيقه وإخراجه من معادلة القوى العربية والأفريقية المؤثرة التي يعمل لها ألف حساب بصورة نهائية، تساؤل أصبح برسم القوى السياسية السودانية للإجابة عليه في القادم من الأيام.. كاتب سوداني |
|