تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قراءة في مسرحيّة «تداعيات الحجارة» للكاتب محمد الحفري: التصــــدّي لإشــــكالية الواقـــــع

ملحق ثقافي
عبد السلام المحاميد

العدد: 12865‏‏

التاريخ : الثلاثاء 22/11/2005‏‏

الملخص : عبر أفق معبأ بالدخان, يتلاشى محمد الحفري خيطا يمتد عبر فضاء سديميّ مضمخ بالضباب.. حيث لا رؤية,‏‏

‏‏

مرتبطا بحبله السرّي الأول, وبمشيمته الأولى, حاملا مصباح ديوجين باحثا عن الحقيقة في وضح النهار, سائلا الرائح والغادي عن دمه المسفوك هناك, والمهدور هنا, مستبشرا بالآتي الذي قد يأتي, وحسبه حقيبة ذكرى ممزقة.. إذا لم يأت. محمد الحفري في مسرحيته: ((تداعيات الحجارة)) يحمل الأرض الصغيرة بين يديه ويقذفها بخوف وحذر شديدين لتحطّ بكلّ ثقلها وبكلّ تفاصيلها الصغيرة والكبيرة على رقعة شطرنج, لتتوزع عناصرها ومكوناتها فوق هذه الرقعة كلّ حسب موقعه, وكلّ حسب ما رسم وقدّر له أن يكـون, وفوق هذه الرقعة الصغيرة، يصفّي محمد الحفري حساباته مع هذه العناصر وهذه المكوّنات ليضعنا أمام الحقيقة الكبرى التي نعيشها في واقعنا ونتواصل معها سلبا وإيجابا دون دراية منّا بعمق هذه التفاصيل ودقة مجرياتها. في هذه المسرحيّة ((تداعيات الحجارة)) يمكننا أن نميّز محمد الحفري بأنّه يحاول أن يضع معادلة للحياة العربية برمتها، فقد راح يحدو أبعد من ذلك نحو معنى ما هو كلّي ومعمم، ينهض على المفرد المتنوّع المتعدد، لكنه المنطوي على خصلة جوهرية تفضي إلى حالة واحدة كليّة, وهنا يتميّز محمد الحفري عن الآخرين ممن نحوا هذا المنحى. وكما هو معروف, الفن المسرحي، فنٌ بصري وسمعي منذ نشأته, أي أنّه يخاطب في جانبه الأكثر أهميّة من خلال الأشكال الهندسيّة المتواجدة على الخشبة, والملابس والإكسسوارات, وكلّ ما هو حركي متطوّر وبذلك تتعدد وظائف الديكور، ويتحوّل المكان, ليوحي مرة بالقلعة أو السجن أو العرش, أو شارع دون تغيير في الديكور, وهذا ما يحدث في المسرح الحديث الذي لم يرغب باستخدام الكتل الديكورية الكبيرة، بل ذهبت بعض الاتّجاهات الحديثة إلى إلغاء الديكور كالمسرح الفقير واعتمد على خيال الممثل والمتفرج معا, ليصنع ديكوره بجسده ومن خلال تعاونه مع الآخرين, وهذا ما يجعل الكاتب يضاعف جهده, ويتوجب عليه إيصال فكرة العرض, فمثلا الكلاسيكية الفرنسيّة لم تكن بحاجة إلى ديكور تفصيلي كون شخصياتها تمثّل الإنسان بالمعنى المطلق, وقد حاول المسرح الفقير أن يتخلص من كلّ ما هو زائد في العمل المسرحي من ديكور وموسيقا و...الخ...., فوجد أنّ الممثل والمكان عنصران أساسيان لا يمكن الاستغناء عنهما, وهذا يتوجب على كاتب هكذا أعمال مسرحية أن يبذل طاقة إبداعية هائلة لينجح بتقديم نص لا يحتاج إلى الكثير من الكماليات الرؤيوية بقدر ما يحتاج إلى تقديم المضمون الإبداعي المسرحي في فنية عالية وقدرة فائقة على التوصيل, توصيل ما يريد إلى ذهن المتلقي وعقله بعيدا عن البهرجة النظريّة والزركشة التي غالبا ما تكون على حساب هذه الفنيّة العالية. وقد استطاع الكاتب المسرحي محمد الحفري أن يخاطب عقل المتلقي مباشرة بعيدا عن هذه الزركشة ليوصل ما يريد مؤديّا وظيفته الفنيّة على أكمل وجه. فنجح باختيار المكان وفتح احتمال الزمان فكانت خشبة مسرحه رقعة شطرنج فيها كلّ أشكال الصراع السياسي والاجتماعي والإنساني, فكانت ساحة حياة ومسرحا كاملا شاملا لكلّ عناصر الوجود البشرية ويرى: ((فيتوباندوفلي)) أنّ الديكور في المسرح اليوناني كان بسيطا لا يتعدى عن عناصر ذات طابع تلميحي لا هدف له سوى تحريض مخيلة المشاهدين، ولا شك أنّ أول تجهيز للديكور تمّ فوق المنصّة، كان كوخا من القماش والخشب, وأدخل الديكور الملوّن في عهد ((سوفوكليس)) فكانت الخلفية من الجلد الملوّن, وكان الديكور مقسما إلى ثلاثة أقسام، يستعمل كلّ لوحة لعرض، تستبدل لدى كلّ عرض جديد، بينما كان الذوق العام متّجها نحو الديكور الخالي من العمق, وطالما أنّه لا يوجد ستار في المسرح الإغريقي فكان تغيير الديكور يحدث بمرأى من المشاهدين. محمد الحفري استطاع أن يمزج هذه الفنيّة حسب ذائقته هو وحسب رؤيته هو، فالحياة مسرح كبير، وهذا المسرح الكبير يتمثل بعناصره ومكوناته الأساسيّة في رقعة شطرنج, تدور فيها أحداث جسام وتفاصيل صغيرة وجميعها تصبّ في قالب الإنسان ووجوده وعلاقته بالآخر وبالسلطة وتأثيره سلبا وإيجابا على هذه المجريات ودوره فيها صغيرا كان أم كبيرا, حتى في مسرحيته الثانية: ((الراقصون)) في نفس المجموعة. لم يكن ليحتاج إلى زركشات وزخرفات مسرحية لأنّها كانت أو لم تكن لن تعطي غير ما أراد لها كاتبها, فكانت عبارة عن حلم... مجرد حلم عربي يعيشه خالد بطل المسرحية, يفرح ويحزن, ينتظر وييأس, مونولوج داخلي يحمل الألم والخيبة حينا, والفرح والأمل حينا آخر, يستفيق على أضغاث حلم مريض واهم لايحمل بين طيّاته إلاّ بكاء الأطفال وصراخ النساء ليترك النهاية شبه مفتوحة للقارئ, أو المتفرج المتلقي, بأنّ الحلم سيظل حلما, وأنّ النهاية مأساوية بكلّ تفاصيلها ما لم نعد ترتيب الحكاية من جديد ونجعل من الحلم حقيقة مطلقة وأكيدة بالاتّحاد وتكريس قوى المجموع لصالح الفرد, نصبح قادرين على قتل الشبح الذي ظلّ يلازمنا منذ أكثر من نصف قرن وقتل كلّ ما من شأنه تمزيق هذه الأمة وتقسيم الوطن إلى قطع صغيرة ومبعثرة, وفضح الخيانات التي تدور بالسر وبالعلن, عندها فقط ندحر المستحيل ونعيد صياغة المستقبل الآمن. والجدير بالذكر أنّ الدكتور والناقد المسرحي حمدي موصللي قدّم لهذه المسرحيّة في صفحاتها الأولى، معتبرا في بداية مقدمته أنّ المسرح قبل كلّ شيء هو كشف... كشف حياة... فرد... خصائص بيئية... علاقات تاريخية... اجتماعية... سياسية... جغرافية... اقتصادية... مصير إنساني, وهذا الكشف يحتاج لرؤية تتخطى الآني, المألوف, الراهن, اليومي, وترى كلّ ذلك من منظور الصراع والتحوّل, وتخطي الثابت في علاقات تقوم أساسا على تفجير الساكن وتحويله لحياة. ولأنّ المسرح رد فعل على فعل الحياة...هو بالتأكيد رد فعل ضد فعل الحياة, وبالتالي من أروع النعم أنّ الأفياء والظواهر والحياة برمتها تتحرك وتصطرع وتتطوّر، ويتابع د.حمدي الموصللي بأنّ المسرح السوري إن اعتمد النص المحلي، فالنصوص المحلية نراها في معظم ما أنتج تقوم على حالات افتراضية، قد تلامس الواقع, ولكنها لا تخدشه بعمق, وفي صلب علاقاته, وهذا يعود إلى أسباب عديدة قد يكون أولها العقل المقموع, وثانيها الخوف من التصدّي لإشكاليات يتطلب التصدّي لها بالإضافة للوعي فيها مغامرة، وقدرة كبيرة على المواجهة بممنوعاتها. في مسرحية: ((تداعيات الحجارة)) يُقْدِم المؤلف على عملية فيها الكثير من الجرأة, وتكمن في التصدّي لإشكالية كان الواقع فيها يعي حالتين متناقضتين الوضوح والغموض ((الوضوح الغامض))و((الغموض الواضح)).‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية